"حرق عمّان" .. يا للهول
لناصحٍ أن ينصح بأن لا نجعل من الحبّة قبّة، فشخصٌ واحدٌ هدّد، بصيغة الجمع، بحرق عمّان (ومن فيها!)، في تجمّعٍ لأردنيين من إحدى العشائر الكريمة، في ضاحيةٍ شرق العاصمة الأردنية، انتظم للانتصار لنائبٍ من العشيرة نفسها، اتخذ مجلس النواب قرارا بتجميد عضويته وقطع مخصّصاته عاما، بعد تلفّظه بمفردةٍ اعتُبرت تعدّيا على المجلس. حمل هذا النائب سيفا، وقبّل المصحف الشريف أمام المحتشدين قدّامه وحواليه. ومن كلامٍ كثيرٍ هتف به، قال إن "عملاء" يتحكّمون في البلد، وإنه مهدّد بالتصفية الجسدية منهم، ولم يسمّ أحدا، ولو تلميحا، فسُمع صوتٌ يعلن فيه صاحبُه إنهم سيحرقون عمّان. ومؤدّى النصيحة في محلّه، غير أن القضية لا تتعلق بقبّةٍ وحبّة، وإنما بجمعٍ غير هيّن العدد، لم يُسمع فيه غير التحريض، وتوظيف المقدّس الديني في إعلان "جهادٍ مقدس" (ضد من؟)، ورُفع فيه السيف، كما استُخدم فيه الشعور الوطني الجامع مع نصرة فلسطين، وامتداح صواريخ القسام .. وذلك كله، ساعاتٍ بعد تجميد عضوية النائب، في قرارٍ لأهل القانون وخبراء النظام الداخلي للبرلمان، وللعارفين بالدستوريّة في هذا المحل أو ذاك، أن ينشغلوا بنقصان قانونية هذا الإجراء أو اكتمالها. أما عموم الأردنيين فيحقّ لهم أن يخافوا مما شاهدوا وسمعوا في "الفيديو" الذي تناقلته هواتفهم، وذاع بينهم، ذلك أن المشهد يكشف مخبوءا، لا نتحسّسه جيدا، نحن المشتغلون في التعاليق الإخبارية، وقليلو الحركة بين جموع الناس، في أريافهم وفي أطراف المدن. ولمّا كان النائب، المعاقَب بتجميد عضويته، ضابطا سابقا في الجيش، فهذا يعني أنه يعرف، أكثر من غيره، وجوب الانضباط أمام سلطة الدولة، بل ووجوب النأي عن النزوعات العشائرية من أي لون، وتغليب الجامع الوطني عليها. وليس مطلوبا من شخصه المحترم أن ينفكّ عن عزوته وناسه وعشيرته، وإنما ألا يستنصرهم، ويستقوي بهم، في مواجهة قرار داخلي في برلمان منتخب، فوسائل التظلم والشكاية والاعتراض والاحتجاج عديدة، مؤكّد أنه ليس منها حمل سيفٍ ومصحفٍ ليلا أمام جمع يُؤتى فيه على "حرق عمّان"، ويمرّ هذا وكأنها "فشّة خلق" عارضة.
يعود التعاطف الواسع بين الأردنيين مع النائب إلى جذريّته في مناهضة إسرائيل، وهو الذي قال، تحت قبّة البرلمان، إن انقطاع التيار الكهربائي بعض الوقت الأسبوع الماضي في عموم المملكة إنما هو لمنع زحف الأردنيين إلى الحدود مع فلسطين المحتلة (!). ولمّا هدمت السلطات المختصّة، في اليوم التالي، خيمةً للنائب كانت معدّة لتجمّع عشائري للغرض ذاته، فذلك لتطويق التداعيات بالغة الحساسية لما حدث. ولمّا أصدر وزير الداخلية تحذيرا صريحا من أي "تجمّعاتٍ ومظاهر خارجةٍ عن القانون"، وأعلن أن أجهزة الأمن المختصّة ستقوم بإنفاذ القانون، فذلك يؤشّر إلى استشعار الدولة مخاطر قد تقع، اجتماعيا وأمنيا، إذا ما تدحرجت حكاية النائب المجمّدة عضويته إلى وقائع أخرى. والرأي هنا أن ضرورة الحزم الأمني في أمورٍ كهذه (من قبيل كلامٍ عن تهديد "عملاء" بتصفية نائبٍ، فيردّ ناسُه بكلامٍ عن حرق عمّان ومن فيها!) من بديهياتٍ لا يجوز النقاش فيها. وفي الحُسبان أيضا أن نخبةً أردنيةً وازنةً لطالما نبّهت، في غير مناسبةٍ وواقعةٍ، في السنوات القليلة الماضية، إلى مسؤولية الدولة وخياراتٍ لها عن استشراء النزوعات العصبوية في المجتمع، وعن النفوذ الفادح للهويات الفرعية والصغرى، بل وأيضا عن الاستقواء الذي صار بيّنا في أوساطٍ غير قليلة على الدولة نفسها. وذلك كله بالتوازي مع ضعف ثقة المواطنين بالحكومة والبرلمان (وارتفاع الثقة بالمخابرات والجيش)، على ما دلّت استطلاعات "المؤشّر العربي" الذي يصدره سنويا المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، واستطلاعات مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، والذي أصدر أمس الأحد أحدث نتائج مسوحاته، وفيها أن التفاؤل بالحكومة الراهنة تراجع 38%، وأن 57% صوّتوا بعدم الثقة بها، وأن 58% لا يشعرون بأنهم سعداء.
دلّ ما سارت إليه الحوادث بعد تجميد عضوية النائب، مجدّدا، وللمرّة الألف ربما، على أن حاجة الأردن إلى ثورةٍ إصلاحيةٍ، سياسيةٍ واجتماعية، وإلى إحياء بيئة حوارٍ حقيقي، لا ريبة فيه ولا تحسّب، شديدةُ الإلحاح وأكثر من ضرورية، فالذي يهتف بحرق عمّان ومن فيها، علنا وفي حشدٍ يناصر نائبا يريد تحرير فلسطين ولا يُسمح له (!)، يُخطرنا بأن الحبّة قد تصير قبّة، لا سمح الله، إذا لم يدشّن صنّاع القرار وأهل الرأي في البلد انعطافةً جريئةً وشجاعةً نحو أردنٍّ مختلف ..