حسن نصرالله وسؤال "التكليف"
باغت الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، اللبنانيين بجملة سريعة أعادتهم من القرن 21 إلى القرون الوسطى، إلى ما قبل القرن الـ 15 الميلادي، إلى مرحلة أسبق على كل ما حاولت الحداثة أن تؤسّس له وتجيب عنه على مستوى السياسة والحكم، أو الشرعية والديموقراطية والسلطة، أو القوانين والتشريعات وأشكال الدول وبنيانها ودساتيرها. ففيما العالم يتوثب نحو حقبة ما بعد الحداثة، جاء نصرالله، بحركة واحدة من النكوص التاريخي، بالعودة والارتكاس، لكي يعيد الكلام إلى نقطة أسبق، فأتت جملته "حل عني، ليش أنت إنسان؟... أنا الله كلفني، نحن ناس الله مكلفنا (بالدفاع عن لبنان)"، لتحقق كل ما قلناه أعلاه وأكثر. بل كانت كفيلة بتحقيق كل ما لم نقله.
ناهيك عن مصادرته معيار استحقاق الإنسانية، استطاع نصرالله في جملة واحدة أن يضرب بالعقد الاجتماعي اللبناني وكل آليات الحكم الحديث عرض الحائط، وأن يقوّض كل إمكانات الديموقراطية والعقلانية، وأن يطيح مستويات الجدل والنقاش والفعل ورد الفعل. بل توغّل أكثر ليقضي على مبدأ فصل السلطات، ولكي يحوّل القوى الأمنية والعسكرية، ومفاهيم الأمن القومي والحدود، إلى لزوم ما لا يلزم. وبالمحصلة، جملة واحدة من نصرالله كانت كفيلة بإعادتنا إلى ما كانت البشرية قد تخطّته بأشكال مختلفة، وبكثير من المآسي، خلال تاريخها، وصولاً إلى ما نحن فيه اليوم.
جملة واحدة من نصرالله كانت كفيلة بإعادتنا إلى ما كانت البشرية قد تخطّته بأشكال مختلفة، وبكثير من المآسي، خلال تاريخها، وصولاً إلى ما نحن فيه اليوم
لا يغيب عن البال أن البشرية كانت قد شهدت نقلات نوعية في حركة التاريخ، تمثلت بتطور النظم السياسية والحكمية والشرعية، وبتبدّل مفاهيم السلطة ومصادرها، ابتداءً من النظرية الثيوقراطية التي كانت سيدة الموقف في غابر الزمان. والثيوقراطية نظرية ترى أن الدولة نظام إلهي، خلقها الله وهو مصدر السلطة فيها، وحكامها إما آلهة أو مصطفون من الله، وإراداتهم تسمو على إرادة المحكومين. وهو ما سمح لهم بأن يوطّدوا سلطانهم واستبدادهم، لأن الله وحده، وليس البشر، من يحقّ له محاسبتهم على أفعالهم. ولأنهم كذلك، لا يحق للبشر، ذوو الطبيعة الأدنى، أن يخرجوا عن طاعة هؤلاء الحكام.
لاحقاً، شهدت الثيوقراطية تطويرات مختلفة، فكانت، في نسختها الأولى، تعتبر أن الحاكم من طبيعة إلهية، وليس مختاراً من الله فحسب، بل هو الإله نفسه، وكان ذلك سائداً في الهند والصين ومصر، إلخ. فترتها، كان المواطن يؤدي فروض الطاعة للاثنين في واحد، قبل أن تشهد الثيوقراطية التطور الثاني، حيث بدأ الحاكم بالتحول من الطبيعة الإلهية إلى كونه ممثلاً للإله، فأصبحت سلطته مُستمدة من العناية الإلهية حصراً، ما حافظ على عدم إمكانية تدخل البشر، لا في اختياره ولا في محاسبته على أخطائه، ولا في إزالته أو استبداله. ولكن، على الرغم من ذلك، كانت الحقبة الثانية بمثابة منعطفٍ أعلن تعديل الحقبة الأولى بشكل نهائي، حقبة السياسة وقد بدأت تتحول لتصبح شأناً أرضياً بأشكال مختلفة.
لبنان أمام واحد من أشدّ الانهيارات الاقتصادية منذ منتصف القرن التاسع عشر، وذلك حسب التصنيفات العالمية
وفي المرحلة الحديثة، مرحلة الديموقراطية، حصل القطع مع كل التراث السابق، وأصبحت السياسية شأناً أرضياً بالتمام والكمال، حيث أصبح مصدر السلطة بيد الناس. تحوّلت السياسة إلى علم نسبي مرتبط بالناس وبأحوالهم، وبكيفية تحقيق حاجاتهم، وبالشرعية التي يمنحونها لهذا الطرف السياسي أو لذاك ممن يحققون مصالحهم. تحقق هذا كله انطلاقاً من النزعة العلموية وما أسّست له من ثقافة الاعتراف بمحدودية الإنسان، ومن قطع مع أي ادّعاء بتكليف إلهي، انطلاقاً من فرضية أساسية ترى أنه لا يمكن أيّاً كان التماهي مع الحقيقة، لا إمكانية لأي تماهٍ مع المطلق والحق والصواب، بل كل الناس على مستوى واحد من الخطأ، وكل المعتقدات على مستوى واحد من القبول ومن الشرعية ومن الرفض.
أطاح نصرالله، بجرّة قلم، هذا كله. أطاح حركة التاريخ والتراث الذي دفعت البشرية الكثير من الدماء والمآسي للخلاص من تجاربه وكوارثه، فالأسئلة بشأن عودة التاريخ إلى الخلف أو تقدمه إلى أمام، وحول وجود مسار واحد يهيمن على التاريخ البشري، وحول مفاعيل الأمام والخلف في هذه المعادلة الكونية، ليست مجرد أسئلة معرفية أو تاريخية كلفت الكثير من الأوراق لمحاولات الإجابة عنها فحسب، بل هي من نوع الأسئلة التي كلفت البشر ملايين الأرواح والمآسي والدموع. فإن كان هناك أي من المسارات التاريخية المزعومة، هل نحن في مصافّ الدول التي تقرّر بشأنها؟ أم أن لنصرالله، وغيره، الحق في هذا الزعم، لأن المجتمع وهيكل الدولة اللبنانية، أو ما كان سائداً منها، تم القضاء عليه شيئاً فشيئاً، ما فسح المجال أمام نصرالله كي يضعنا في أتون هذه المعادلة؟
استطاع نصرالله في جملة أن يضرب بالعقد الاجتماعي اللبناني وكل آليات الحكم الحديث عرض الحائط
لا شك أننا في لبنان أمام واحد من أشدّ الانهيارات الاقتصادية منذ منتصف القرن التاسع عشر، وذلك حسب التصنيفات العالمية. ولكن هذا لا يقاس بما أعادنا نصرالله إليه حين نطق تلك الجملة التي كانت كفيلة بإجبارنا على إعادة التفكير بحساباتنا كافة، فالانهيار الذي نعيشه، بكل حدّته ومآسيه، سيكون بمثابة مزحة سمجة أمام القادم من الأيام.
ما دفع اللبنانيون ثمنه في بلدهم، وما يدفعون ثمنه حتى اللحظة، ما دفعت البشرية ثمنه، والذي تستمر في دفعه، كله بات محاطاً بعلامات استفهام وأسئلة كثيرة، فعندما يبدأ المصطفون والمكلفون من الله (أشار جورج بوش الابن إلى تكليفه من الله أيضاً، وذلك قبل نصرالله بما يقارب العقدين) بتقرير مستقبل البشرية؛ وعندما يخوضون حروبهم انطلاقاً من معيار أخلاقي يقوم على التماهي مع الحق؛ عندما يبدأ المصطفون بتقرير مصير البشرية والشعوب وحركة التاريخ والدول، وتحديد المآسي التي ستدفعها البشرية ثمناً للانهيارات المتتالية؛ ساعتها نكون أمام تكرار سيناريو الإبادات التي مرّت في التاريخ. نكون أمام استخدام كل أسلحة بوش في العراق، وأسلحة الصهيونية في فلسطين، وقنابل هيروشيما وناغازاكي، والحربين العالميتين، والنازية والفاشية، والإبادة السورية المتكرّرة، وأمام مشهد مستمر لانفجارات متتالية مماثلة في حدّتها لانفجار المرفأ في بيروت.