حضرة المتهم أحمد فؤاد نجم: براءة
هل يمكن الكتابة عن أحمد فؤاد نجم؟ طبعا ممكن، عاش نجم حياةً مدهشةً وموجعةً ومليئةً بالتفاصيل والحكايات والأحداث والأشخاص. من هنا، يمكن الكتابة عن الشاعر والكاتب والمناضل و"الحالة" الفنية والثورية، لكن أحدًا لا يمكنه الكتابة عن نجم الإنسان، أخطائه، ونزواته، وشطحاته، ومصائبه، ذلك لأن نجم فعلها بنفسه في مذكّراته، الأكثر جرأة في تاريخنا الحديث، ولم يعد أحدٌ يستطيع "التعلية" على الفاجومي. هكذا كنت أتصوّر، إلى أن قرأت كتاب "وأنت السبب يابا .. الفاجومي وأنا" (الكرمة للنشر والتوزيع، القاهرة، 2023)، للكاتبة المبدعة نوّارة نجم، ابنة الشاعر .. وأخطر نقاده.
هذا كتابٌ فريد، تبكي في أول السطر وتضحك آخره، ثم تقفز من كرسيّك نشوة واستمتاعا وذهولا، وتعيد القراءة، ولا تريد لهذه الصفحات أن تنتهي، طاردت نوّارة ذكرياتها مع أبيها، وأمسكت بـ "تلابيب الكتابة"، فإذا بها تكتب عن مصر وتاريخها ومبدعيها ومناضليها وحكامها.. عن عُقد اليسار، و"نذالات" الإسلاميين، ومسرح حزب التجمع، وسجناء جماعة الإخوان، عن شيوعي من أهل الله، وفلاح كافر، وإسلامية تحبّ سعاد حسني، وطفل شوارع فيلسوف، عن الشيخ إمام، وسعيد صالح، وشاهندة مقلد، ونجيب ساويرس، وعمرو خالد، وعن أنور السادات (وكيف شاركت نوّارة في اغتياله؟)، وحسني مبارك (وكيف رفض نجم مشاركتها في عزله؟).
أين أحمد فؤاد نجم الأب إذن؟ حضر نجم في غيابه، ربما أكثر من حضوره في حضوره. تحكي نوّارة، كثيرا، عن أبيها الغائب، الغائب لأنه طلّق أمها، والغائب لأنه مسجون، والغائب لأنه "هربان" من الحكومة، والغائب لأنه "هربان" منها .. ومع ذلك تطارده نوّارة، لا تيأس، ولا تكفّ، ولا تريده أن يفرح بذلك، تشبهه بأكثر الشخصيات حضورا في حياة الناس، كأنها تهين غيابه، تختارهم كبارا ومؤثرين لكنهم لا يشبهونه، وليسوا على مزاجه، تعرف أن أباها أهلاوي متعصّب مجنون يجري حافيا في الشوارع حين يفوز الأهلي فتشبهه بنجم الزمالك العظيم حسن شحاتة، يعرف الجميع (وإن لم تذكر نوّارة في كتابها) أن عادل إمام وسعيد صالح أصدقاء نجم، لكن سعيد هو الأقرب له، فتشبّهه، بالعند فيه، بعادل إمام، تخبره أن صلاح جاهين أفضل منه فيجيبها: طبعا.
هل كان أحمد فؤاد نجم صادقا؟ يلاحق هذا السؤال أغلب المناضلين، خصوصا أصحاب الصوت العالي، واللسان الطويل، والجماهير العريضة، لا تنشغل نوّارة بطرح السؤال أو إجابته، فهي مشغولةٌ بـ "تحصيل" نجم، وليس بحصيلته، صادقٌ أو مدّع أو ركبه عفريت، أين هو أصلا؟ لكن حكايات نوّارة عن أبيها تخبرنا، من دون قصد منها، (كما أراهن)، عن رجلٍ مشكلته الرئيسة أنه صادق (جدع/ ودي بلوته/ فيه حد عاقل جدع؟). توقظ الطفلة نوارة أبيها لأنها رأت حرامي.. "حرامي يا بابا بيسرق فلوس من الدرج"/ يجيب نجم: "اعملي نفسك نايمة.. ما تحرجيهوش"/ "ما أحرجوش إيه ده حرامي"/ يضع نجم يده على فم ابنته، يكتم أنفاسها، حتى ينتهي اللصّ، ويخرج، تسأله نوّاره: هل استأذنك في أخذ الفلوس؟/ فيجيب: اعتبريه استأذنني/ اعتبره؟ يعني حرامي بجد!/ أيوه حرامي، عايزه إيه؟ أنت مش شايفه أنا عايش فين؟ هو أنت في الزمالك؟ ناس غلابة وده بائس لدرجة إنه بيسرقني أنا، تكسفيه ليه؟/ ده بايت عندك يا بابا وكان سهران عندنا طول الليل/ خلاص يبقى من أصحاب البيت، ما هو أكيد محتاج الملاليم دي، أمّال سارقها عشان يعمل بيها مشروع؟
عنوان الكتاب، "وأنت السبب يابا"، جزءٌ من أغنية كتبها نجم، تأثرا بـ "زنّ" نوارة، وهي تتر مسلسل "حضرة المتّهم أبي". لم يدافع نجم عن نفسه، أو يبرّر أخطاءه، على العكس، تمثل نوّارة، وكتب باسمها وصوتها ومشاعرها وآلامها، كأنه هي، فهل ردّتها له نوّارة في كتابها؟ كتبت نوّارة نجم لتحرّر نفسها، وتدفع عن كاهلها جزءا من أعباء التجربة، فإذا بها تحرّر أباها، وتدفع عنه، وتمنحه "براءة" يستحقها، ولو ترافع نجم عن نفسه ما كتب أجمل من ذلك، ولا أكثر إمتاعا وعمقا وصدقا وعفوية.