حفتر باقٍ ويتربّص
تحتفظ صحافات دول الثورات العربية المضادّة لليبي المتمرّد، خليفة حفتر، بمسمّاه الذي يرتديه منذ خمس سنوات، القائد العام للجيش الوطني الليبي. وأيضا، تُبقي عليه مشيرا، المنزلة التي كان قد افتعلها لشخصه، عشية استعداداته ومليشياته، ومرتزقته من سودانيين جنجويد وتشاديين وروس، لاقتحام طرابلس، ليغدو فيها رئيس ليبيا. لم يفلح في شيءٍ من هذا، لحزمةٍ من الأسباب، أهمها العون العسكري الحاسم الذي أمدّت به تركيا حكومة الوفاق السابقة، وكذا اكتفاء العون العسكري الإماراتي، وبعض المصري بعض الوقت، لقواته، بمساعدتها على قصف المرافق العامة، والمدنيين، وقتل طلابٍ في كلية عسكرية، وما شابه من جرائم. طوى الليبيون، بمشقّةٍ، في جولات حوارٍ مضنيةٍ تعدّدت في غير بلد، وبإسنادٍ من الأمم المتحدة، تلك الشهور الصعبة من الاحتراب والاقتتال، من إبريل/ نيسان 2019 وصولا إلى أكتوبر/ تشرين الأول 2020. توصلوا إلى وقفٍ لإطلاق النار، وتشكّلت لجنةٌ عسكريةٌ لمراقبته، وقامت حكومة وحدةٍ وطنيةٍ، واختير مجلسٌ رئاسي، وتقرّر تنظيم انتخاباتٍ رئاسيةٍ وبرلمانيةٍ في ديسمبر/ كانون الأول المقبل. وعلى ما واكب هذا المسار المستجدّ، والذي بعث آمالا طيبةً في نفوس شعب ليبيا المنهك، من آمالٍ ومؤشراتٍ داعمة، فإن تحدّيات عويصةً ما زالت ماثلةً أمام الحكومة والهيئة الرئاسية والبرلمان الذي استعاد وحدته. وفي الأثناء، ألزمت انعطافةٌ مصريةٌ باتجاه تنسيقٍ مع أنقرة، وهزيمةٌ ثقيلةٌ ازدردها الحاكمون في أبوظبي، خليفة حفتر، على الانكفاء، وقد أيقن داعموه في الخارج أنه مهما سوند وسُلّح وأنفق عليه، يظلّ حصانا خائبا.
.. ولكن، لم تنته حالة خليفة حفتر، فما زالت ما تُسمى "القيادة العامة للقوات المسلحة العربية الليبية" في بنغازي تصدر بياناتها. وممثلوه في اللجنة العسكرية 5 + 5 يعرقلون الوصول إلى آلياتٍ لتوحيد الجيش. والأطراف الخارجية الداعمة له تستقبل رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة، وتعلن إسنادها المسار السياسي الجديد في ليبيا، وفي الوقت نفسه، لم تقطع خيوطَها معه. وتتحدّث أخبارٌ عن إرسال موسكو قريبا إليه عناصر جددا من مرتزقة فاغنر، وإنفاق الإمارات على هؤلاء لم يتوقف. وقد أفيد بأن مليشياته ترفض سحبهم، ومعهم الجنجويد، من قاعدتي القرضابية (في سرت) والجفرة، وهو الأمر الذي عمل على إنجازه رئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، في لقاءاته في سرت مع أعضاء اللجنة العسكرية المختصة، ولم يفلح. أما منع هذه المليشيات، الأسبوع الماضي، هبوط طائرة كان مقرّرا وصولها، وتقلّ وفدا موسّعا من الحكومة، يرأسُه الدبيبة، من الهبوط في مطار بنينا في بنغازي، لعقد اجتماع في المدينة، والاطلاع على أحوال ناسها، فقد جاء بالغ الدلالة على أن شهوة السلطة لدى الأسير السابق في تشاد، خليفة حفتر، ما زالت تستبدّ في أخيلته. وقد عُلم أنه أمَر بمنع زيارة الوفد بنغازي لامتناع الدبيبة الاجتماع به في مقرّه في قاعدة الرجمة، وكأنه يحاول فرض أمر واقع، وانتزاع اعترافٍ خاصٍّ بسلطته (وهي قائمة فعلا) في بنغازي وبعض الشرق الليبي. ويعدّ تذرّعه بأن عناصر إرهابية بين حراسات الوفد الحكومي، وكذا إصرارُه على أن تتولّى عناصر من قواتٍ مواليةٍ له حراسة الوفد، تمرّدا يُشهره بوضوح على شرعية السلطة الجديدة في البلاد، ممثلةً في الحكومة التي تعمل على بسط ولايتها في عموم ليبيا، وشرعت في إجراءاتٍ وخطواتٍ ميدانيةٍ وإداريةٍ وعمليةٍ في هذا الخصوص. وعندما تعلن مليشيات حفتر إن لا رابط يصلها بالحكومة (تسمّيها مؤقتة)، فإنها تعمل على ترسيم أوضاع ما قبل وقف إطلاق النار.
وهنا، يعدّ صحيحا قول رئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، إن حفتر لا يخضع لأي سلطة، الأمر الذي يهدّد إجراء انتخاباتٍ حرّة في ديسمبر. وواردٌ أن تستمر عراقيل المذكور في غير شأن، من قبيل تدخلاتٍ فظّة في إرساء التعيينات في المناصب العليا في الدولة. يشجّعه على ذلك أن الأغطية التي كانت تؤمّنه بها غير دولةٍ عربية وأجنبية لم تنكشف عنه تماما، فليس من ضغطٍ دوليٍّ جاد عليه، وعلى وجهاء وأعيان نافذين في الشرق الليبي، الأمر الذي قد يجعله يرتكب "مفاجآتٍ" غير متوقعة، فهو باقٍ ويتربّص، ولا يحفل بحكومة الوحدة ولا بالمجلس الرئاسي، ويبتزّهما، .. وإلى أن يقترب استحقاق ديسمبر، ثمّة أفاعيل كثيرة قد يقدم عليها هذا الرجل.