حفيدة التاريخ الأندلسي
عندما انتهيتُ من متابعة مقابلة الباحثة الإسبانية أديبة روميرو في "بودكاست مغارب"، كنتُ قد تأكّدت مرّة أخرى أن التاريخ يكتُبه المنتصرون فعلا، ولكنه يبقى تاريخا مزيّفا ما لم يعِد المهزومون قراءته. لا يموت المهزوم، حتى وإن اختفى من المشهد سنوات أو ربما قرونا طويلة كما فعل مسلمو الأندلس بعد سقوط غرناطة.
أربع ساعات مقسّمة على حلقتين من "بودكاست مغارب"، الذي يقدمه الشاب محمد الرماش، كانت غير كافية لسرد التاريخ الأندلسي من وجهة نظر المسلمين المهزومين. ... ولكن حفيدتهم أديبة روميرو استطاعت أن تعيد رسم ملامح المشهد، ليس أمام عشّاق قراءة التاريخ وتأمل تحوّلاته الدرامية العجيبة وحسب، ولكن أيضا أمام الباحثين الذي تغريهم القوالب الجاهزة للتفكير وللكتابة والبحث أيضا، فيبنون عليها تصوّراتهم الجديدة من دون أن يكلفوا أنفسهم عناء البدء من الصفر.
فعلت أديبة عبد الصمد، أو أدا روميرو كما هو اسمها الإسباني الرسمي، ذلك، وقرّرت أن تستثمر حكايتها وحكاية عائلتها الشخصية مع الإسلام ومع اللغة العربية على نحو أفضل، في ما يشبه العودة إلى الوراء بالممحاة والقلم، لتقول لللعالم كله إن اسبانيا، بلادها، ارتكبت جريمة عندما تخلّت عن هويتها الحقيقية وتاريخها المفعم بالروح الإسلامية العارمة على سبيل تزوير الهوية والوجود كله، وكانت النتيجة هذا المسخ الواقعي لبلادٍ غير منتميةٍ واقعيا، لا لأوروبا وثقافتها المسيحية الخالصة، ولا للإسلام بثقافته العربية التي كانت هوية ووجودا وتاريخا وتعليما وفنّا لا يمكن تجاهله، وإن عملت إسبانيا جهدها قرونا على محوه.
عندما أرسلت إلي ابنة أخي، نشوى، رابط المقابلة على "يوتيوب"، كعادتها وهي تقتنص لي ما تظن أنه يعجبني، أجّلت المشاهدة لولا أنها ألحت علي. ذكرت لي عباراتٍ وردت على لسان أديبة وهي تحكي قصّة عودتها ووالدها ووالدتها إلى الإسلام، كل على حدة، في ما يشبه قصص الأفلام العجائبية. تأثّر نشوى ودمعتها التي بقيت معلقة في الجفن الأسفلى لعينها اليمنى على عادتها عندما تحدّثني عما يمسح شغاف روحها الشفيفة، جعلني أترك كل شيء بيدي لحظتها، لأبدأ بمتابعة الحلقتين. لم تكد تمضي من الحلقة الأولى سوى ربع ساعة، عندما قرّرت أن هذه المقابلة قد تكون أفضل مقابلة أراها على الشاشة، أي شاشة، منذ سنوات طويلة.
تتحدّث أديبة بتدفق عجيب وسرعة من تخاف أن تفرّ الحكايات والمعلومات من ذاكرتها، ولأنها مبتسمة دائمة، حتى وهي تكاد تبكي على مصائر التاريخ في تحوّلاته الحزينة، أضافت إلى المقابلة ذلك الرونق السحري الذي يجعلنا ننشدُه بأساطير الأولين. لكن بضاعة الغرناطية الذكية لم تكن أساطير أولين، بل كانت تاريخا مسكوتا عنه طوال قرون.
عندما قالت إن اسبانيا لم تكن تعترف بحرية الأديان حتى نهاية سبعينيات القرن الماضي على سبيل المثال، وإن الإسباني ينبغي أن يكون مسيحيا بالضرورة، وأن يحمل اسما مسيحيا بالضرورة حتى ذلك التاريخ، اكتشفتُ كم نحن متواطئون على التزوير التاريخي الذي تعرّضت له حضارتنا العربية وديننا الإسلامي، ليس في إسبانيا وحسب، وليس في العقدين الأخيرين وحسب، ولكن أيضا في العالم كله تقريبا، أي منذ خرج أبو عبد الله الصغير من غرناطة منهزما ومنكسرا. حتى أبو عبد الله الصغير قالت أديبة إنه لم يكن صغيرا أبدا، ولم يبك كالنساء مُلكا لم يحافظ عليه كالرجال؟ إنها عبارة كتبها المنتصر الذي أراد محو كل فضيلة سبقته، واعتساف كل عبارة شاردة من دفاتر التزوير.
تقول حفيدة الموريسكيين إن إسبانيا بُنيت على فكرة إبادة شعبها، وهي الآن لا تريد أن تتعرّف إلى هويتها، ولا أن تتصالح مع تاريخها الحقيقي، لأنها لا تفهم كيف أن روح الإسلام ظلت سارية في عروق إسبانيا، رغم كل محاكم التفتيش وقسوتها التي بلغت حد أنها أجبرت الناس على خلع أبواب منازلهم حتى يتسنّى مراقبتهم في كل اللحظات، في محاولة طويلة جدا للقضاء على الإسلام في نفوسهم. فهل انتهى هذا الدين حقا؟
في تفاصيل اللقاء الممتع الذي لم يشعُر من يتابعه على مدى ساعاته الأربع بالملل أبدا، مفاتيح كثيرة لأبواب غير موجودة في منازل الأندلسيين، حتى وقت قريب من التاريخ، تفضي إلى حضارة عربية إسلامية توارت شمسها تحت طبقاتٍ من الزيف والقوة والنفوذ والكذب، لكنها لم تمُت ولن تموت.