حكايات من عالم اللاجئين
استوطنَّا، في الأشهر الأولى لخروجنا من سورية، مدينةَ الريحانية التركية. التسمية سورية بالطبع، فاسمُ المدينة الحقيقي REHANLI، والسوريون القدامى كانوا يطلقون عليها اسم "ارتاح". كان أحد أعمامي يحكي لنا إنه سافر كثيراً إلى ارتاح، أيام الدولة العثمانية، وكان ينزل ضيفاً على صديقٍ له من آل قراجا، لديه كلب شرس ملقب "أبو دومان" .. ودومان بالتركية تعني: دخان. وفيما بعد، أصبح الكلب أبو دومان عنصراً فعالاً في مجلة كش ملك الإلكترونية التي أسستُها، أنا أخوكم، خلال إقامتي في الريحانية.
تبعد ريهانلي عن معبر باب الهوى الحدودي أقل من عشرة كيلومترات. تسمية "باب الهوى" هي الأخرى سورية، فالأتراك يسمّون هذا المعبر CİLVEGÖZÜ، وتعني، على ذمة المرحوم عبد القادر عبدللي، العين الدامعة. خلال الأشهر الأولى لإقامتنا في الريحانية، كان دخول السوريين وخروجهم من المعبر سهلاً، وكنا نستقبل أقارب لنا، ونودّع آخرين، فينطبق علينا القول الشعبي السوري: رايحين جايين، سرّي مرّي. وكان أحد الظرفاء يسمّي وزارة النقل "وزارة الـ سرّي مري".
لم يمضِ على وجودنا في الريحانية سوى وقت قصير حتى غيّرنا أسماء شوارعها وساحاتها. صرنا نتواعد عند دوّار البركة، أو دوّار الشجرة، أو دوّار السيراميك .. ولم نكن قادرين، وقتئذ، على تعلم اللغة التركية، لأن معظم الناس هناك يتحدّثون العربية، وأنا جرّبت حظي، ذات مرّة، فقلت لنادل مطعم في أنطاكية بتركية مكسّرة: أريد طعاماً لثلاثة أشخاص .. ومن سوء حظي أن كلمة شخص (KİŞİ)، قريبة باللفظ من كلمة (KEÇİ). لم أفهم لماذا ضحك النادل، وقال لي: احكِ بالعربي أستاذ. وعندما رويت الحكاية لعبدللي، فيما بعد، قال لي: النادل ضحك لأنك قلت له أريد طعاماً لثلاث عنزات!
في إسطنبول، فعل إخوتُنا السوريون الشيء ذاته، مع معظم الأماكن، ففي شارع الاستقلال القريب من ساحة تقسيم كنا نتواعد عند ساحة العواميد؛ وهذا ليس اسم الساحة ولكن ثمّة بناء قريبا من الساحة توجد في واجهته أعمدة رفيعة متطاولة. وإذا سألت أي سوري عن سبب تسمية حي HALKALI، يقول لك: اسمه خَلْق علي، لأن سكانه من الشيعة! وهذا غير صحيح بالطبع، والترجمة الحرفية للاسم هو: ذات الحَلْقة. وهذا يذكّرنا بطرفة كانت بطلتها المطربة فيروز، حين اتهموها بالتشيع لأنها غنّت "ضَلَّكْ عيد يا عَلي، سمعني العود".
هناك تفسيرات مختلفة لكلمة "زغرتي" التي تُستخدم في العامية السورية، ومعناها الرجل الشجاع الكريم الذي لا يَظلم، فيذهب بعضهم إلى أن أصلها زغرتاوي نسبة إلى بلدة زغرتا اللبنانية، ويرجّح آخرون أنها مشتقّة من الكلمة التركية (ÖZGÜR)، وتعني "الحر". ومما يرويه الشاعر السوري، لقمان ديركي، أن دلال العقارات في مدينة أربيل سأله: أنت زغرت؟ فأجابه لقمان بحماس وزهو "نعم، أنا زغرت، ومعدَّل، وعلى كيف كيفك". فقال الدلال: مع الأسف، صاحب المنزل لا يؤجّره لرجل زغرت .. وقد تبيّن له، في الحال، أن زغُرت بالكردية تعني "الأعزب". وهذا ليس مصدر الفكاهة الوحيد في هذه الحكاية، فقد فاتني التنويه بأن لقمان ديركي كردي، ولا يعرف الكردية، وهذا شائع، وبالأخص لدى أكراد دمشق، وبعض أكراد حلب .. كان معنا، في ألمانيا، رجل كردي شامي، طيب، وحباب، ورائق، ولكن مشكلته مع اللغات عويصة. ذات مرّة، طلب مني مرافقته إلى الطبيب، لأقوم بدور الترجمان عن اللغة الإنكليزية التي نجيدها، الطبيبُ وأنا. في طريق العودة، فاجأني صاحبي بقوله إن اللغة الألمانية أصعب من الإنكليزية. ومن قبيل التسلية، سألته عن مدى إلمامه باللغة الكردية، قال: صفر. قلت: والعربية؟ قال: أقلّ من الصفر.. وهو بالطبع لا يعرف الإنكليزية ولا الفرنسية، ووقتها ضحكتُ في سرّي وقلت: هذا الرجل لا يعرف أية لغة متداولة على سطح هذا الكوكب، فكيف عرف أن الألمانية أصعب من الإنكليزية؟