25 اغسطس 2024
حكاية ذات طبيعة سياسية
عندما كان الفنان السوري ماهر حميد في السادسة، تلميذاً في الصف الأول الابتدائي، لم يكن يعرف مَنْ هو جمال عبد الناصر، ومَنْ هو "البعث". جُلُّ ما فهمه من أحداث تلك الأيام أن ناصر والبعث شخصان يكره كُلٌّ منهما الآخر. وعلى الرغم من الكراهية المتبادلة بينهما، فقد قرر "البعثُ" أن يشارك في تشييع عبد الناصر غيابياً (28 سبتمبر/أيلول 1970).
لم يقتصر التشييع الغيابي على المدن الكبيرة، بل تعدّاها إلى البلدات الصغيرة البعيدة، ومنها بلدته مَعْدان في محافظة الرّقة. ولأنه طفل ذو وجدان عاطفي نادر، فقد شارك في التشييع عن طيب خاطر. ومما يتذكّره، الآن، أن التلاميذ خرجوا من المدرسة، ومشوا إلى الجامع مترادفين في أرتال متوازية، وهناك كان "البعثُ" قد أحضر تابوتاً فارغاً، وطلب من الجميع أن يصلّوا عليه، مفترضين أن الجثمان في داخله، فصلّوا بالفعل، وغطّوه بعلَم الانفصال، وحملوه على أكتافهم، وراحوا يدورون به الشوارع.
قال ماهر: كانت تلك أول مَسيرة شاركتُ فيها خلال حياتي، وبعينيَّ هاتين شاهدتُ النساء الجالسات أمام أبواب الدور يبكين، ويمسحْن مناخيرهن بخرقٍ عديمة النفع، والرجال يسقطون متهالكين على أطراف الشوارع والأزقة، لأن رُكَبَهُمْ ما عادت قادرة على حمل أجسامهم من شدة الحزن، وكلما مررنا في شارعٍ يزداد عدد السائرين، حتى أصبح يُعَدُّ بالمئات.. وعلى الرغم من صغر سني وعقلي (عقل ولد ابن ست سنوات) فقد فكرتُ بأنه عيبٌ على "البعث" أن يكره عبد الناصر، فهو "خوش زْلِمَهْ"، والدليل هاتيك النسوة الباكيات والرجال محلولو الركب. وكان إلى جانبي، في مسيرة التشييع، زميلي مصطفى الذي فهم، مثلي، أن "البعث" غلطان بحق الزلمة، وعيب عليه. وبناء على هذا، تباطأنا حتى صرنا في المؤخرة، وصرتُ أنا أؤلف هتافات (مشفترة) ضد "البعث". هتافاتي أعجبت الأولاد الماشين بالقرب منا، فتجمّعوا حولنا، وكاد القسم الخلفي من المسيرة أن ينفصل عن جسدها الأصلي، وصار الزملاء يشتركون معنا في ترداد الهتافات المشفترة، بصوت عال.
معلم الصف الرابع، الأستاذ عبد الرحمن، كان يقوم بواجبه في التشييع على أكمل وجه، وقد آجَرَ (طلَب الثواب) بحمل التابوت مذ غادرنا الجامع، وكان ينظم "المؤاجرة" بأن يدفع أحد الرجال إلى الأمام، ويربت على مؤاجِر آخر أن يُخلي مكانه له.. ولكنه، بمجرّد ما سمع هتافاتنا المشفترة ترك كل شيء وركض نحونا. وبدلاً من أن يتفهّم موقفنا المتعاطف مع الرئيس الراحل، راح يوبّخنا ويصرخ في وجوهنا، وكاد تصرّفه أن يوقعه في مشكلةٍ عويصةٍ حينما قال لزميلنا ماهر: عم تحكي على حزبنا العظيم؟ والله لأعمل وأترك في.. وقبل أن يذكر والدة ماهر أو شقيقاته كان اثنان من أخوال ماهر قد جاءا لمؤازرته، فاستدرك قائلاً: الكلام موجه لك يا مصطفى.. يا الله لشوف، تعالوا معي إلى المخفر.
ماهر ومصطفى بمجرّد ما سمعا بالذهاب إلى المخفر خافا، وهربا شرقاً، وأما أنا فقد مشيت معه غير خائف، لأن رئيس المخفر كان يزورنا بشكل دائم، وأبي كان يقدّم له الطعام، وهو يأكل بشراهة. بصراحة، كنت أخاف أن نلتقي "البعث" هناك ويباشر بي ضرب كفوفٍ لأني شتمته، وكتبت عنه هتافاتٍ مشفترة. الخلاصة، هناك، في المخفر، عرفت أنه لا يوجد "زلمة" اسمه "البعث"، ولكن يوجد رفاق يحبون البعث، راحوا يضربونني وينهرونني، ويحاولون أن يعرفوا مَنْ هو الرجل الذي علمني أن أسبّ وأشتم البعث، وأكتب عنه هتافات مشفترة. ولأنني كنت أكتفي بالبكاء، فقد أفهمني الرفيق عبد الرحمن أن التطاول على البعث لا يأتي بنتيجة، وأن البعث لازم يكون حياتنا وروحنا.. وقال لي، وأنا خارج من باب المخفر: اوعى تفكر إني عملنا تشييع لعبد الناصر لأني منحبه.. بالعكس، نحن انبسطنا وعملنا له تشييع لأني مات وارتحنا منه!
قال ماهر: كانت تلك أول مَسيرة شاركتُ فيها خلال حياتي، وبعينيَّ هاتين شاهدتُ النساء الجالسات أمام أبواب الدور يبكين، ويمسحْن مناخيرهن بخرقٍ عديمة النفع، والرجال يسقطون متهالكين على أطراف الشوارع والأزقة، لأن رُكَبَهُمْ ما عادت قادرة على حمل أجسامهم من شدة الحزن، وكلما مررنا في شارعٍ يزداد عدد السائرين، حتى أصبح يُعَدُّ بالمئات.. وعلى الرغم من صغر سني وعقلي (عقل ولد ابن ست سنوات) فقد فكرتُ بأنه عيبٌ على "البعث" أن يكره عبد الناصر، فهو "خوش زْلِمَهْ"، والدليل هاتيك النسوة الباكيات والرجال محلولو الركب. وكان إلى جانبي، في مسيرة التشييع، زميلي مصطفى الذي فهم، مثلي، أن "البعث" غلطان بحق الزلمة، وعيب عليه. وبناء على هذا، تباطأنا حتى صرنا في المؤخرة، وصرتُ أنا أؤلف هتافات (مشفترة) ضد "البعث". هتافاتي أعجبت الأولاد الماشين بالقرب منا، فتجمّعوا حولنا، وكاد القسم الخلفي من المسيرة أن ينفصل عن جسدها الأصلي، وصار الزملاء يشتركون معنا في ترداد الهتافات المشفترة، بصوت عال.
معلم الصف الرابع، الأستاذ عبد الرحمن، كان يقوم بواجبه في التشييع على أكمل وجه، وقد آجَرَ (طلَب الثواب) بحمل التابوت مذ غادرنا الجامع، وكان ينظم "المؤاجرة" بأن يدفع أحد الرجال إلى الأمام، ويربت على مؤاجِر آخر أن يُخلي مكانه له.. ولكنه، بمجرّد ما سمع هتافاتنا المشفترة ترك كل شيء وركض نحونا. وبدلاً من أن يتفهّم موقفنا المتعاطف مع الرئيس الراحل، راح يوبّخنا ويصرخ في وجوهنا، وكاد تصرّفه أن يوقعه في مشكلةٍ عويصةٍ حينما قال لزميلنا ماهر: عم تحكي على حزبنا العظيم؟ والله لأعمل وأترك في.. وقبل أن يذكر والدة ماهر أو شقيقاته كان اثنان من أخوال ماهر قد جاءا لمؤازرته، فاستدرك قائلاً: الكلام موجه لك يا مصطفى.. يا الله لشوف، تعالوا معي إلى المخفر.
ماهر ومصطفى بمجرّد ما سمعا بالذهاب إلى المخفر خافا، وهربا شرقاً، وأما أنا فقد مشيت معه غير خائف، لأن رئيس المخفر كان يزورنا بشكل دائم، وأبي كان يقدّم له الطعام، وهو يأكل بشراهة. بصراحة، كنت أخاف أن نلتقي "البعث" هناك ويباشر بي ضرب كفوفٍ لأني شتمته، وكتبت عنه هتافاتٍ مشفترة. الخلاصة، هناك، في المخفر، عرفت أنه لا يوجد "زلمة" اسمه "البعث"، ولكن يوجد رفاق يحبون البعث، راحوا يضربونني وينهرونني، ويحاولون أن يعرفوا مَنْ هو الرجل الذي علمني أن أسبّ وأشتم البعث، وأكتب عنه هتافات مشفترة. ولأنني كنت أكتفي بالبكاء، فقد أفهمني الرفيق عبد الرحمن أن التطاول على البعث لا يأتي بنتيجة، وأن البعث لازم يكون حياتنا وروحنا.. وقال لي، وأنا خارج من باب المخفر: اوعى تفكر إني عملنا تشييع لعبد الناصر لأني منحبه.. بالعكس، نحن انبسطنا وعملنا له تشييع لأني مات وارتحنا منه!