حليب الكرامة وهرمون الوساطة
ينشط هرمون الوساطة عند عجوز أميركا، جو بايدن، مرة واحدة كل شهر تقريباً، فتمتلئ الدنيا بعناوين من نوعية بايدن منخرط.. بايدن متفائل.. قريبون من التوصل إلى صفقة وإعلانها قريباً، ثم يسدل الستار على عنوان متكرّر يقول: مصدر أميركي يعلن استحالة الوصول إلى اتفاق، وبعدها ينفضّ المولد، قبل أن ينعقد مجدّداً حسب حالة الرئيس الأميركي العصبية.
هذا المسلسل الركيك يجعل الشارع العربي يفقد الأمل تماماً في قدرة النظام الرسمي على أن يقدّم شيئاً ذا قيمة للشعب الفلسطيني الشقيق الذي يواجه حرب الإبادة وحيداً منذ 11 شهراً اكتملت قبل يومين. بات هذا الشارع يدرك أن قادة الأمة الحقيقيين ليسوا هؤلاء الذين تجدهم فوق مقاعد القيادة، أو خلف شاشات التنظير والسفسطة، بل هم ماهر الجازي وعشرات آخرون نعلمهم وملايين لم نعلمهم بعد، يأتون كل عدة سنوات أو بضعة عقود من التيه الحضاري والضياع السياسي والاجتماعي فيبعثون في الأمة روحها، ويجدّدون عقيدتها الحقيقية.
بطلقات معدودات من مسدس صغير عند معبر الكرامة بين الأردن والضفة الغربية ينتشل البطل ماهر الجازي من مقبرة الصمت والعجز، فنكتشف أنها لا تزال تنبض بالحياة، وتتذكّر كل شئ من تفاصيل تاريخها وجغرافيتها السياسية والحضارية والإنسانية، في لحظةٍ تصوّر فيها أوغادها وأوغاد العالم أنهم نجحوا في إصابتها بالعُقم تحت تأثير كمّيات هائلة من هرمونات الوساطة الأميركية، يجري ضخّها بكثافة مرعبة، عبر كل وسائل الإعلام العربي، في محاولة لفرض واقع كريه، يقول إن البسالة هي محاصرة العدو بالمفاوضات، والفروسية هي إقناعه بالموافقة على صفقة، والعروبة هي الوساطة.
في هذا المناخ المسرطن، سطع ماهر الجازي، ليضاف إلى أقمار البطولة الشعبية العربية، الفردية، منذ زمن سناء المحيدلي في جنوب لبنان، وسليمان خاطر وأيمن حسن، وأخيراً البطل الشهيد محمد صلاح في مصر، والأردني البطل أحمد الدقامسة، وسلسلة طويلة جدّاً من الذين رضعوا حليب الكرامة صغاراً لتزهر بهم الأمة، مجسّدين حالة شعبية متصلة من البعث والحياة، تفاجئنا كلما نامت الحكومات والأنظمة على أسِّرة السلام الأميركي الإسرائيلي. هؤلاء هم علامات الفطرة السويّة، والأبناء الشرعيوّن لروح هذه الأمة، قد لا يكون الواحد منهم قد حضر حرباً بين العرب والصهاينة، ولم يتعلّم في المدارس أو من وسائل الإعلام أنهم العدو التاريخي، ولم يكن قارئاً مطّلعاً ومثقفّاً، بحيث يتشكل وعيه على القضية، وبالرغم من ذلك، يسلك ما لو كان يرضع الخطاب القومي المقاوم مع الحليب منذ ولادته، أو كأنه محاربٌ قديم من الأجيال التي خاضت القتال، وخبرت المعركة المقدّسة. وكما قلتُ سابقًا إنها محبّة فلسطين، والإيمان بأنها منا ونحن منها، تجري مع الدم في العروق وتغذّي القلب والعقل فتبقى الحكاية على قيد الحياة، حكاية جرح يؤلم كل عربي اسمُه احتلال فلسطين، وحكاية عداءٍ لمن اغتصبوا أرضها ونكّلوا بأهلها تتوارثها الأجيال.
الأردني بطل عملية الأمس التي زلزلت العدو الصهيوني، من نسل الجازي، اللقب الذي لمع في معركة الكرامة، 21 مارس/ أذار 1968، حين اتّحدت القوات الأردنية النظامية مع قوات من فصائل المقاومة الفلسطينية، خاضتا معاً قتالاً ضارياً ضد العدو الصهيوني الذي كان قد شنّ هجوماً من ثلاثة محاور، في محاولةِ للقضاء على المقاومة واحتلال مساحاتٍ من الأردن، لتنتهي المعركة بانتصار عربي، شديد الأهمية عقب انكسار يونيو/ حزيران 1967، وأجبر الصهيوني على الانسحاب، بعد أن تكبّد عشرات القتلى فضلًا عن الخسائر في المعدات، هنا تكمن قيمة (وروعة) البطولة الفردية التي تنفض الغبار عن صفحات محجوبة عمداً من التاريخ العربي، وتدفع الأجيال الجديدة إلى البحث والتنقيب عنها وقراءتها واستيعابها وحفظها هناك في مساحة عميقة من الوعي بمعاني الأخوّة والمصير المشترك، والإدراك السليم للقضية بوصفها صراعًا عربيّاً صهيونيّاً، لا مجرّد بين الاحتلال والجزء المقاوم من فلسطين المحتلة، كما يريد المهيمنون على المحتوى الإعلامي والتعليمي والثقافي العربي أن يغرسوه في ذاكرة المستقبل.
من هنا، إن تصرّفاً عفوياً بسيطاً من رياضي عربي يرفض فيه خوض مباراة مع لاعب صهيوني أو مصافحته في مناسبة دولية، يصبح نوعاً من الفعل المقاوم، وليس فقط سلوكاً رياضيّاً، والأمر نفسه ينطبق على المثقف أو الناشط السياسي الذي يتعفّف عن الوقوع في فخاخ التطبيع المنصوبة كل وقت وفي كل مكان، في زمن عربي شديد البؤس، يناضل فيه جل الرسميين العرب من أجل إقناع أن مصلحة إسرائيل في القبول بوساطةٍ أميركية المتْن عربية الهامش.