حماس والمسيحيون والقاع الفلسطيني
يُسعفك أرشيفٌ مهملٌ بأن وزير الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطيني هو رئيس الحكومة محمد اشتية، وبأنه لمّا عمل، في مارس/ آذار 2019، على تشكيل الحكومة، استعصى عليه حسم اسمين يعهَد لهما بوزارتي الداخلية والأوقاف، فآلت إلى شخصه حقيبتاهما. ولمّا تسلّم وزارة الأوقاف والشؤون الدينية من سلفه الشيخ يوسف ادعيس، والتقى فيها "الوكلاء والوكلاء المساعدين والمدراء العامين"، قال إن هذه الوزارة تمثّل "عصب الأمن القومي الفلسطيني، وحامية للسلم الأهلي والمجتمعي"... المناسبة التي تذكّر بهذا الكلام النافل (وليس عليه جمرك كما يُنعت كل كلامٍ لا يكلّف صاحبه شيئاً) أن الإدارة العامة للوعظ والإرشاد في هاته الوزارة، خاطبت، الثلاثاء الماضي، "الأخ" وكيل الوزارة، عبد الهادي سعيد الآغا، في كتابٍ مذيّل بعنوان مقر هذه الإدارة في غزّة، وأجرى عليه قلم، بخط اليد، اعتماده "وأخذ اللازم"، وأخبرته الإدارة بفعالياتها "للحدّ من التفاعل مع الكريسماس". ومن هذه الفعاليات غير القليلة مخاطبة وزارتي الداخلية والاقتصاد، و"نشر فتاوى في الموضوع" و"إعداد المادة الدعوية لمخاطبة المعنيين"، ومشاركة "لجنة التحصين المجتمعي" في المهمة. ولمّا كان "الكريسماس" مناسبةً مسيحية، فإن الإدارة المختصّة هذه، وبالتعاون مع وزارات وهيئات ومؤسسات متعدّدة و..، بادرت إلى مأسسة جهودٍ مجتمعيةٍ وإعلاميةٍ من أجل تطويق فعاليات هذا العيد وهذه المناسبة، بالحدّ من "التفاعل معها".
لا يحتاج واحدُنا لمعجم ابن منظور ليعرف أن المشايخ الجليلين، من أهل الوعظ والإرشاد، إنما أرادوا عدم تفاعل المسلمين الفلسطينيين مع إخوتهم المسيحيين الفلسطينيين في هذا العيد، أو أقلّه أن يكون هذا التفاعل، إنْ حدث، محدوداً. ولمّا تسربت الوثيقة (التاريخية في كاريكاتيريّتها) في "السوشيال ميديا"، وأتى الناقدون الساخطون، عن حق، على هيمنة شيوخ حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ودُعاتها على الإدارة المتحدّث عنها، في الوزارة التي تبسُط الحركة نفوذا عليها في غزّة، كان الظن أن يبادر وزير الأوقاف والشؤون الدينية، محمد اشتية، إلى إيضاح مساحات ولايته على وزارته، طالما أن أزعومةً سيقت، غير مرّة، إن الحكومة التي يترأسها مسؤولةٌ عن "جناحي" الوطن، قطاع غزة والضفة الغربية. لم يفعل، فأخذت "حماس" تدافع عن نفسها، وتقول الإنشائيات إياها عن إخوة أبناء الوطن الواحد. أما وزارة الداخلية (في غزة!)، فأبلغتنا أن "من يحاول الاصطياد في الماء العكر لن يجني شيئاً"، والردّ عليها هنا أنه ليس ثمّة ماءٌ صافٍ في الحال الفلسطيني كله نراه قدّامنا. بل يفيدنا بيان وكيل وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الذي توجهت إليه تلك "المراسلة الداخلية" بأن ثمّة فائضاً من الماء العكر في المشهد الفلسطيني، عندما يُخبرنا "مكتب الوكيل"، في بيان "إيضاح"، أصدره أول من أمس السبت، بأن تلك المراسلة "ليس لها أي علاقة بإقامة النصارى لمناسباتهم واحتفالاتهم وممارسة طقوسهم الدينية وحقوقهم العامة" (من قال أصلاً إن لها هذه العلاقة؟!). ويوضح البيان المذكور أن تلك المراسلة إنما تندرج ضمن واجبات هيئة الوعظ والإرشاد، وفي سياق "إرشاد المسلمين للأحكام الشرعية المتعلقة بمشاركة المسلمين في المناسبات الدينية لغير المسلمين، وتقليدهم في شعائرهم الخاصة بهم، فالمسلمُ مأمورٌ باجتناب المخالفات الشرعية في الأعياد الخاصة بأعياد المسلمين، فمن باب أوْلى أن يجتنبها في أعياد غيرهم".
إذن، هنا قضية الفلسطينيين المركزية في راهنهم، هذه أولوية أولوياتهم، ولا يستقيم عيشهم من دون الاحتراس والاحتراز بشأنها، بحسب وعّاظ "حماس"، أصحاب الولاية والوصاية في قطاع غزة، على الفلسطينيين المسلمين اجتناب مخالفاتٍ شرعيةٍ في أعياد النصارى.. يأتي هذا الكلام، بعد إطنابٍ عن التعايش مع الشركاء في "القضية والنضال والوطن". ويدعونا بيان وكيل الوزارة العتيدة، في فرعها الخاص المستقل في دولة قطاع غزة، نحن الإعلاميين (ومعنا الناشطون السياسيون والحقوقيون) إلى المساهمة في تعزيز السلم الأهلي (!).
...، من دون تطويل كلام، كان الظن أن في وسعنا أن نعرف سقوف الركاكة والرثاثة في القاع الذي يقيم فيه الحال الفلسطيني، غير أن الشواهد التي لا تنفكّ تتوالى تدلّ على أن في وهمنا هذا خطأ مريعا، من جديدها بيانان، واحد داخلي للإدارة العامة للوعظ والإرشاد في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطينية وآخر عام لوكيل الوزارة. وأن محمد اشتية، لمّا قال إن وزارته (الأوقاف ..) تمثّل "عصب الأمن القومي الفلسطيني" ظنّ أن ثمّة من سيأخذ كلامه ذاك على محمل الجدّ.