حماس والنظام السوري والقضية الفلسطينية
قال رئيس الدائرة السياسية والعلاقات الخارجية في حركة حماس، باسم نعيم، في مقابلة مع تلفزيون العربي، في 19 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) إن إعادة الحركة علاقتها مع النظام السوري نابعة من عقيدتها السياسية التي تعتبر المحرّم الوحيد لعلاقاتها الخارجية هو العلاقة مع الاحتلال. وتابع إن خروج "حماس" من سورية لم يكن لأسباب تتعلق بالصراع داخل سورية، وإنما لأسباب لوجستية وأمنية ميدانية تتعلق بالقدرة على الاستمرار في العمل.
يشير هذه التصريح إلى إشكالات كبرى، ليس في الخطاب السياسي للحركة فحسب، بل أيضا في سلوكها، الذي هو سلوك سلطة حاكمة على أرض الواقع، وليس حركة مقاومة. ولا شك في أن أي حركة مقاومة ستخضع لتغيرات سياسية وأيديولوجية حينما تنتقل من هامش العمل السياسي إلى مركزه، ذلك أن هذا الانتقال يفرض العمل العقلاني محرّكا رئيسا للسلوك السياسي، من أجل عدم خسارة المكانة الجديدة، وهذه طبيعة الأشياء. ولكن العقلانية السياسية شيء، والتركيز على المصالح الخاصة بعيدا عن المبادئ شيء آخر.
عندما قرّرت "حماس" الخروج من سورية، فذاك لأنها رفضت إملاءات النظام بإعلانها موقفا يؤيده ويدين الاحتجاجات. وفي هذا الموقف أثبتت الحركة آنذاك وفاءها للقيم الأخلاقية التي تحكم عملها بوصفها حركة مقاومة، تطالب بالتحرّر، وتجعل من حرية المجتمعات عنوانا لها.
العقلانية السياسية شيء، والتركيز على المصالح الخاصة بعيدا عن المبادئ شيء آخر
لم يكن خروج الحركة من سورية على الإطلاق لأسباب لوجستية وأمنية كما قال نعيم، وهناك تصريحات عديدة لقادتها منذ عشر سنوات توضح مواقفها من الخروج. وفي المقابل، لم يكن قرار العودة إلى علاقات مع النظام نابعا من احتياجات القضية الفلسطينية، وإنما من احتياجات "حماس" التي هي احتياجات سلطة، وكان جماعيا في داخل قيادة الحركة في غزة وفي الخارج. وهنا تطرح تساؤلات عدة، ما الذي تغير على المستوى الأخلاقي في الوضع السوري، حتى تعيد الحركة علاقتها مع النظام؟ وما هي المكاسب، التي يجب أن تكون استراتيجية، من هذه الإعادة؟
مشكلة حماس، كما مشكلة الفصائل الفلسطينية الأخرى، غياب المشروع الوطني الفلسطيني المتكامل، ومع غياب هذا المشروع، أصبحت القوى والحركات الفلسطينية تتلمس دروبها السياسية وفق مصالحها الخاصة. ولا يعني هذا أن "حماس" وغيرها من الحركات الفلسطينية ليست قوى مقاومة، وإنما المقصود أن غياب المشروع الوطني المتكامل المفترض أن تعمل تحته القوى الفلسطينية جعل المصالح الخاصة تطغى، في أحيانٍ كثيرة، على القضية الفلسطينية.
مشكلة حماس، كما مشكلة الفصائل الفلسطينية الأخرى، غياب المشروع الوطني الفلسطيني المتكامل
ومع إعادة الحركة علاقتها مع النظام السوري، تطرح مسألة الدور السوري من القضية الفلسطينية. لا يتعلق الأمر بما سيقدمه النظام للحركة، بل الأهم ما الذي قدّمته دمشق طوال العقود الماضية للقضية الفلسطينية؟ سؤال ربما، لا يجرؤ كثيرون على طرحه: توضح قراءة سريعة للعقود الماضية ما الذي قدّمه النظامان، السوري والمصري، للقضية الفلسطينية.
كانت حرب عام 1948، حرب الشعوب العربية أكثر مما هي حرب الأنظمة، بل يمكن القول إن ثمة تخاذلا لدى الأنظمة العربية، خصوصا المصري والسوري. لم تحدث حرب السويس عام 1956 من أجل القضية الفلسطينية، بل لأن جمال عبد الناصر أمّم قناة السويس، ما أثار غضب بريطانيا وفرنسا، اللتين قرّرتا التحالف مع إسرائيل لخوض الحرب ضد مصر. ولم تكن نكسة 1967، إلا خطأ مصريا يتحمّله عبد الناصر شخصيا، حين طلب من قوات الأمم المتحدة مغادرة الأرض في سيناء. ولم تكن حرب 1973، على الأقل من الجانب المصري، من أجل الأرض الفلسطينية، وإنما من أجل استعادة الأرض المصرية.
خلال الثمانينيات، حارب حافظ الأسد منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، بسبب رفض ياسر عرفات القبول بأن يكون جزءا من استراتيجيته. على مستوى عملية السلام بين مصر وسورية من جهة وإسرائيل من جهة ثانية، ألحقت هذه العملية ضررا استراتيجيا بالقضية الفلسطينية، فقد تحولت مصر عمليا إلى مجرّد وسيط بين إسرائيل والفلسطينيين، وغالبا ما كانت هذه الوساطة لصالح إسرائيل، هل علينا أن ننسى أن وزيرة خارجية الاحتلال تسيبي ليفني آنذاك هدّدت من القاهرة بإسكات الصواريخ التي تطلقها حركة حماس، قبل يوم من شنّ إسرائيل عدوانا على قطاع غزة.
دعمت سورية القضية الفلسطينية في المحافل العربية والدولية، وقدّمت الدعم العسكري والأمني لحركات المقاومة الفلسطينية، لكنه كان دعما لغايات السلطة فقط
على المستوى السوري، رفض حافظ الأسد الواقعية السياسية لصالح التمسّك بأيديولوجيا السلام القائمة على أن أي اتفاق سلام يجب أن يخضع للقرارين الأمميين 242 و 338، ومع أن هذا الموقف يبدو، من الناحيتين، النظرية والأيديولوجية، مهما، لجهة أن القرارين يدرجان الضفة الغربية والقدس إلى جانب الأراضي الأخرى في سورية والأردن ومصر، ولكن إسرائيل ظلت ترفض إطلاقا توقيع سلام مع أية دولة عربية وفق مقرّرات الشرعة الدولية، وهذا ما كان الأسد يدركه جيدا. ولكن الخطأ السوري كمُن في عدم إدراك اللحظة التاريخية آنذاك مع انهيار الاتحاد السوفييتي، وعدم وجود أية قوة دولية أو إقليمية أو عربية قادرة على ممارسة الضغط على إسرائيل والولايات المتحدة، وكانت النتيجة تفرّد إسرائيل بالفلسطينيين والأردنيين، وهو تفرّد أنتج اتفاقيات أوسلو عام 1993، حيث اضطرّ عرفات للقبول بأقل الممكن، وأنتج اتفاقية وادي عربة بين عمّان وإسرائيل عام 1994، في حين بقيت سورية خارج المعادلة، وانعكس هذا سلبا على المستوى الاستراتيجي بالنسبة لسورية، فقد أصبحت الجولان نسيا منسيا.
نعم، دعمت سورية القضية الفلسطينية في المحافل العربية والدولية، ونعم قدّمت الدعم العسكري والأمني لحركات المقاومة الفلسطينية، لكنه كان دعما لغايات السلطة فقط، ولذلك يتحمّل النظام السوري، باعتباره الطرف الأقوى عربيا في عملية السلام في مدريد، مسؤولية عدم نشوء كتلة عربية موحدة في مواجهة إسرائيل.
لن تستفيد حركة حماس من إعادة علاقتها بالنظام السوري، سوى الحصول على بعض الأسلحة، وعلى دعم أمني ولوجستي، وهذا دعمٌ لا يخدم القضية الفلسطينية، ولن يحصل النظام إلا على ورقةٍ لا يسمح وضعه المتهالك بالاستفادة منها.