حوار مع صديقي التونسي
عزيزي التونسي الغاضب من حركة النهضة والإسلاميين وراشد الغنوشي: عندك حق. الإسلاميون مستفزّون، المحافظ منهم والإصلاحي، الدرويش منهم والسياسي، دارس الهندسة ودارس الفلسفة. يختلفون في الفكر والرؤية، ويتفقون، جميعهم، في كونهم، فعلا، مستفزّين، متخصصين في حرق الدم والأعصاب، وفقع المرارة. وهذا بديهي، وطبيعي، شخصٌ ينطلق مما يريده الله إلى ما يريده الله، ينافس آخر دنيويا، رباني في مواجهة بشري. هكذا يرى نفسه، وهكذا يرى خصومه. هذا هو المحدّد النفسي الأعمق الذي يحكم العلاقة، ويحمل خطاباتها، فتأتي شديدة الغرور والتعالي والعنجهية والعجرفة والشعور الدائم بالاستحقاق. ولذلك عندك حق، اغضب كما تشاء، واشتم كما تشاء، واصرخ كما تشاء، وحمّل الغنوشي ورفاقه ما تشاء من اتهامات. بالغ بقدر ما أغضبوك، وتوسّع بقدر ما أوسعوك، وخذ راحتك على الآخر، لكن تذكّر أن "انقلاب" الحافلة يعني موت الركاب جميعا، وليس السائق وحده.
نواجه، مع الأصدقاء التوانسة، من التيارات كافّة، حالة غضب شديدة هذه الأيام. كان الشأن التونسي شأنا عربيا، نهتم به فيُسعدون. صار شأنا داخليا، لا يحق لنا تناوله. ولم تمنع الفروق، غير الجوهرية، بين تونس ومحيطها العربي، من تصدير الثورة التونسية، وتحوّلها إلى ربيع عربي. صارت الفروق، في تقديرهم، حائلا دون تكرار التجربة المصرية، في تونس. لم يتوقف الأمر عند الغضب والانزعاج، بل تجاوزهما إلى السخرية والمكايدة: لسنا مصر، لدينا انتخابات لا تعرفونها، لدينا جيش وطني، لا يتدخّل في السياسة، لدينا مؤسسات أكثر وطنية، أكثر ديمقراطية، ولدينا شعبٌ لن يسمح لأحد بتجاوزه ... (تكبير).
"ما العقل إلا خادم الأهواء" هكذا يصفعنا ديستوفيسكي في "الجريمة والعقاب". وأخطر ما يحدث في تونس الآن، ليس الانقلاب، إنما محاولة "دسترته"، وهو ليس دستوريًا، وثورنته، وهو ليس ثوريا، ودمقرطته، وهو، بالتأكيد، ليس ديمقراطيا، إلا إذا كان قتل القاتل خارج القانون، من دون قاض، ومحاكمة عادلة، عملا قانونيا. تونس ليست مصر، قد يكون صحيحا، في التجربة، في التفاصيل، لكنها ليست كذلك، في قيمة التجربة، وإمكانية تجاوز التفاصيل، وتطويعها. تونس ليست مصر في الطريقة، لكنها ألف مصر في الطريق، قد يختلف شكل المرمى، وإمكانات الحارس، إلا أن هدف اللعبة الأخير هو تسديد الهدف، والهدف هو القضاء على الديمقراطية، ووأد التجربة، في مهدها، والرجوع إلى المربّع "ما قبل الربيع العربي".
صديقي التونسي الغاضب: لم يبد انقلاب 3 يوليو في مصر، في وقته وحينه، انقلابا. كانت المظاهرات تملأ الشوارع بالملايين، وحالة الغضب أكثر اشتعالا من تونس. تدخل الجيش، في شكل استجابة للجماهير، وليس استغلالا للحدث وقفزا على السلطة. لم يحكم عبد الفتاح السيسي، ووعد بأنه لن يحكم، وأقسم على ذلك. لم يجمع السلطات كلها في يده، ويسمّي ذلك ديمقراطية وتعدّدية، كما يحدث عندكم الآن في مشهدٍ يتفوق، في عبثيته وكوميديته، على خطابات السيسي وتغريدات قيس سعيّد معا. لم يتصدر السيسي، وحده، جاء ومعه رموز التيار المدني والمؤسسات الدينية، الإسلامية والمسيحية، والأحزاب السلفية قبل العلمانية، وملايين المتظاهرين، والمثقفين، والفنانين، والنخب، ووعد الجميع بانتخاباتٍ رئاسيةٍ مبكرة، واستئناف الحياة المدنية. وحكم رئيس المحكمة الدستورية، بشكل مؤقت، ووضعت خطة طريق، ووصل الأمر إلى استدعاء رئيس مجلس الشعب، سعد الكتاتني، وهو عضو في جماعة الإخوان المسلمين، للمشاركة في مشهد الانقلاب، بوصفه أخفّ الضررين، كما وصفه شيخ الأزهر، من دون أي تعمّد للكذب أو الخداع. وها أنت ترى النتائج، يا صديقي، خطوة خطوة، انحلّت عرى الثورة، والمظاهرات، والزخم الجماهيري، والميادين، والأحجيات النخبوية، والدساتير، والقوانين وخطط الطريق، وجاء السيسي، وفشلت التجربة، وما هي إلا شهور، أو أكثر، وتشهد الشيء نفسه في تونس، إلا إذا (…).
هنا يمكننا أن نفتح قوسين متقابلين، ونترك لك ملء ما بينهما، من دون تدخّل في شأنك الداخلي، أو تطفّل على تجربتك المختلفة، أو إسقاط مرضيٍّ للتجربة المصرية البائسة على السياق التونسي المتعالي. وحدك من سيملأ الفراغات، المهم أن تملأها، أنت، وليس قيس سعيّد وحلفاؤه الإقليميون.