حين تحتلّ طهرانُ عاصمةَ الأمويين
حدث أنْ غَمَرَ طوفان "الشمولية" الفضاءَ العام في سورية، وذاك تدبير سلطوي قاسٍ شيّدته وحرسته مدرسة الأسد بنسخة الأب ثمّ نسخة الابن، أكثر من نصف قرن، وحرصت أن يكون هذا الغَمْر الشمولي مكتظَّ الدلالات وشديدَ اللزوجة في آن، بحيث يصعب انتشال المجتمع من تحت ركام النمطية والامتثالية في الاستجابة وردّة الفعل.
فنظام الحكم في سورية، والحالُ على هذا النحو، إنّما استأثر بصفة العداء التامّ للفضاء العام، جاعلاً من المجتمع خصماً مكتملَ الدلالة حينما ينحدرُ من ضفّةٍ غير التي ينحدر منها هذا النظام، فاستوجبَ ذلك أن تُعادي السلطةُ في سورية المجتمعَ، وأن تحرص على تصفيته تدريجياً، وهذا صار نافذاً بالفعل من خلال جيش النظام، وأجهزته الأمنية. لكنّ تسلّل السلطة إلى الفضاء العام، والاستحواذ عليه بهذه الطريقة، جعلا من الخمول صفةً ملتصقةً بالفعل الاجتماعي ضمن مُحدّداتٍ يدركها الجميع من مصادرة المبادرة الفرديّة قيمةً، وإتلاف المواطنة مضموناً، الأمر الذي أعاد تشكيل الشخصية العامّة للمجتمع وفق التصوّر الذي يريده النظام، أيّ تكريس الشخصية المهزومة، المدجّجة بقلّة الاكتراث، والمُغالِية في الطاعة العمياء، وهذا أخّر تدفّق "الربيع العربي" داخل الدورة الدموية للحياة في سورية، فجعله آخر محطّاته العلاجية، بعد تونس ومصر وليبيا واليمن. فكان ربيع العام 2011 حدثاً مفصلياً في سرديّة النيْل من حكم عائلة الأسد للبلاد، ووفقهُ جاءت الثورة فعلاً طارداً لمفهوم أبدية السلطة القائمة، متمثّلةً برأسها بشّار الأسد، وهذا أسّس لتشييد هجاءٍ سياسيٍّ قاسٍ للنظام ذي الأنا المتضخّمة، وتعميمه في نحوٍ واسعٍ، وإخراجه من دائرة النُخْبَوية السياسية المُعارِضة، وفي ذلك اجتهاد لتفكيك الشخصية النمطية العامّة، ومن ثمّ محاولة إعادة تكوينها مُجدَّداً خارج أسوار مدرسة الأسد.
اعتبر إي سنغ مان، الذي صار أوّل رئيس لكوريا الجنوبية، في كتابه "اليابان من الداخل إلى الخارج" (1941) أنّ الشمولية التي اتّصف بها نظام الحكم الياباني في ذلك الوقت، أثناء سيطرته على عدة دول آسيوية، هي حالة معارضة العالم الديمقراطي، إذ للأفراد أهمّية أكبر من المجتمع نفسه، وهذا نزرٌ يسيرٌ من الاستلهامات التي غزت عقلي حافظ الأسد وابنه (بشّار) في حكم سورية، كما كان ينبغي للباحثة اليهودية في السياسة، حنة أرندت، أن تتريّث كثيراً في تأليف كتابها "أصول الاستبداد" (1951)، لتتعرّف إلى التجربة الأسدية في تكريس الاستبداد والشمولية وإلغاء المجتمع، فهذه مدرسةٌ تفوّقت كثيراً على نظيرتيها، النازيّة والستالينيّة، اللتين كانتا تفاصيلهما تجوب أرجاء كتاب أرندت ذاك. لكن، ما علاقة إعادة توصيف نظام الحكم في سورية باحتلال طهران دمشق، عاصمة الأمويين؟
يصعّب نشوبَ صدامٍ بين سكّان العاصمة والسلطة القائمة، حتّى إنْ كانت هُويَّة مدينتهم مُهدَّدةً بالانتهاك والاستبدال بأخرى بفعل ممارسات الاحتلال الإيراني البلاد
وُقّعت يوم الخميس (5 سبتمبر/ أيلول الجاري) اتّفاقيَّتا تعاون وتوأمة بين دمشق وطهران، وبحسب وسائل إعلام النظام السوري، ستشملان قطاعات مثل السياحة الدينية والعلاجية والأتمتة والإلكترونيات والنقل ومعالجة النفايات الصلبة، ووقّعَهما كلٌّ من رئيس بلدية طهران، علي رضا زكاني، ومحافظ دمشق محمد طارق كريشاني، غير أنّ ما اتُّفِق عليه إنّما يُكرّس في جوهره مزيداً من النفوذ الإيراني الشره داخل العاصمة دمشق، التي باتت تغوص في التشيّع في مشهدٍ بصريٍّ فسيح يسهل الاستدلال على محتواه. أيضاً، من شأن اتفاقية التوأمة تلك أن تجعل من دمشق (قدر المستطاع) نسخةً معلولةً من عاصمة النظام الإيراني. ألمْ يُغرّد المرشد الأعلى للنظام الإيراني، علي خامنئي، في "إكس" (25 أغسطس/ آب الماضي)، أنّ المعركة بين الجبهتين، الحسينيّة واليزيديّة مستمرّةٌ، ولا نهاية لها؟ أليس في تلك التوأمة المزرية رائحةُ معركة تخوضها عقيدة الحرس الثوري الإيراني بدلالاتها الهذيانيّة ضدّ المكان؟ ... والمكان هنا دمشق بإرثها الأموي، حين كانت عاصمةَ الخلافة الإسلامية في ما مضى (662 – 750). أمّا المُؤثّر في مسألة التوأمة، التي أُقرَّت أخيراً، فهو انغماس الدمشقيين بالسكوت، وتدثّرهم باللامبالاة، معطيات يمكن قياسها واقعيّاً، فقلّة اكتراثهم بما تؤول إليه مدينتهم من تشيّع عبر الغزو الإيراني المستمرّ لها، هو دليلٌ على بقائهم داخلَ منظومة الشخصية النمطيّة المُهادنة، أحدَ أبرز منجزات مدرسة الأسد الشمولية، وحتّى نكون منصفين أكثر، ينبغي عدم التقليل من سطوة النظام السوري على العاصمة، ومحاصرتها بمنظومةٍ أمنيةٍ مُرعِبةٍ للكيان الاجتماعي العام، كما أنّ طبقة التجّار ورجال الأعمال الدمشقيين، بوصفهم بقايا للبرجوازيّة الشاميّة العريقة، وجدوا أنفسهم مضطرّين للاندماج بنظام الأسد الشمولي، منذ تَجذَّر ابتداءً من سبعينيّات القرن الماضي، في مقابل حصولهم على امتيازاتٍ معروفة، ذات طبيعة اقتصاديّة، إذ إنّهم يراعون هنا براغماتيةً متوارثةً تُبرِّر تقبّلهم المكاسب الماديّة في مقابل استبعادهم الصدامَ مع السلطة القائمة، فكيف إذا كانت سلطةً مرعبةً كالتي أسّسها حافظ الأسد، وورثها ابنه عنه في حكم سورية؟!
ورث التجّار ورجال الأعمال الدمشقيون براغماتيةً تُبرِّر تقبّلهم المكاسب الماديّة في مقابل استبعادهم الصدامَ مع السلطة القائمة
كما لا يمكن نكران دهاء حافظ الأسد في تعامله مع ذاكرة التأميم المريرة، التي يبغضها رأس المال السنّي (وسواه أيضاً) في سورية، حين سَطَتْ عليه قرارات التأميم المتلاحقة، والتي بثّها جمال عبد الناصر في إقليم الشمال خلال فترة الوحدة بين سورية ومصر (1958-1961)، إذ حاول الأسدُ (الأبُ) استمالةَ القلق السنّي، لا سيّما في دمشق وحلب، وتهدئته، وتقريبه من طبيعة سلطة "البعث" المنقلبة على عهد الانفصال، كما حاول حافظ الأسد إعادة رأس المال السنّي الهارب من مذبحة الوحدة الاقتصادية، ونجح في ذلك إلى حدّ كبير، وربّما هذا الذي أثمر إنشاءَ (وتبريرَ) علاقةٍ مستقرّةٍ بين التجّار ورجال الأعمال "الشوام"، وغيرهم من مكوّنات رأس المال السنّي القابل للاستثمار، وسلطة نظام الأسد الشموليّة، على أن يكون قوامها المرئي عدم استفزاز السلطة، أو الصدام معها، في مقابل كسب الطمأنينة والأمان الاستثماري، ولعلّ تحييد السنّة "الشوام" أيضاً عن رتب الجيش القيادية، ورَكْنِهم في الهامش العسكري من سلطة الأسد نفسها، في مقابل صعود نجم السيطرة العلويّة على مفاصل الجيش والأجهزة الأمنية، رسم حدوداً جديدة لما تبقّى من البرجوازية الشامية، فرضيت بها مرغمةً داخل فضاء اجتماعي جديدٍ ومدسوس، حدودُه الشموليّةُ، وسقفه التصفيةُ والرعب.
ذلك كلّه يُصعّب نشوبَ صدامٍ بين سكّان العاصمة والسلطة القائمة، حتّى إنْ كانت هُويَّة مدينتهم مُهدَّدةً بالانتهاك والاستبدال بأخرى بفعل ممارسات الاحتلال الإيراني البلاد، فطهران تريد احتلال دمشق، وجعلها مدينةً قبيحةً لا تُطاق، إذ كانت الشمولية التي تربّت بيد حافظ الأسد، وابنه، كفيلةً بجعل المجتمع السوري راكداً، لا يقوى على إنكار فعل السلطة، أو مجابهته، إلا في ما ندر، ومثالُ ذلك ما حدث من فعل ثوري بعد العام 2011، لكنّه يبدو غيرَ كافٍ لإنقاذ عاصمة دولة بني أميّة، من التشيّع والاندثار.