حين تعود الفلسفة إلى بيتها مبحثًا في الحقّ
يصادف يوم الفلسفة العالمي الذي أعلنته الأمم المتحدة في كل ثالث خميس من نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام، هذه السنة الصراع المحتدم على أرض فلسطين المحتلة، فيتزامن مع الإبادة التي يرتكبها الاحتلال بحقّ الشعب الفلسطيني، وبحق قضيته وحقوقه وحريته، مع كل ما تطرحه وما يُطرح على هذه الإبادة، وما يُطرح على الفلسفة بالتالي، من أسئلة أخلاقية تأسيسية تعيد الاعتبار والتفكير في كل شيء، خصوصًا ما يختزنه الحال القائم من إمكانات وضرورات النظر في مستوى طبيعة النظرية وطبيعة الممارسة، وفي مستوى هامش تناقضاتهما.
كما في السنة الماضية، حينما صادفت المناسبة الانتفاضة الشعبية في إيران، وتوق الشعب الإيراني إلى الحرية، وكما مر على العالم خلال هذه السنة من حروب وكوارث طبيعية وأخرى سياسية واقتصادية، يأتي يوم الفلسفة على وقع الحرب، أو مجال نشاطية الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل، ولكن بالتزامن مع صمت معظم حكومات العالم وتواطئها، وبالتزامن مع وتيرة تداعي معظم الشرائع والمنظومات الأخلاقية الدولية التي عملت البشرية عليها سنوات وسنوات، وذلك حينما حاولت ضبط كيفية إدارة العالم، وكيفية إدارة الصراعات والعلاقات الدولية والإنسانية فيه، تأثرًا بمجموعة كتب، في مقدمتها، للفيلسوف الألماني إيمانويل كانط "مشروع للسلام الدائم" وللفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل "هل للإنسان مستقبل؟". تلك الشرائع التي تطوّرت مع مرور الوقت، سواء التي ما زالت تعتنقها وتحميها وتناضل من أجل قيمها كثير من شعوب اليوم في تناقض صارخ مع حكوماتها، أو الشرائع البديلة التي تتمثّل برفض كل تطلعات (وأدوات) أي فاشية قاتلة، وفي مقدمتها الفاشية الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني.
ميدان الفلسفة اليوم لا بد أن يشمل ويتخطّى كلّ ما كان يُقال في السابق، ولتعيّن كل ما يجب أن يقال في المستقبل وما يمكن أن يُقال عليه
والفلسفة في عرف بعضهم ليست للميدان، بل هي فوقه. هي في عرفهم ليست عملًا بقدر ما هي فوق العمل... مع ما يستدعيه ذلك من أن تكون الفلسفة اليوم، بطبيعة الحال، وفق منطق هذه الأعراف، ليست صراعًا بقدر ما هي ذلك المستوى الذي يتخطّى الصراع، ما يركن فوقه، أو ما يفكّك كل شروط الصراعية بوصفها، كفلسفة، تطمح إلى سلام كوني دائم وثابت. النظر البرجوازي للفلسفة، إن صح هذا القول هنا، يبرجزها، يضعها في مكانٍ منفصل عمّا عداها من ميادين فكرية، ومن مساعٍ سياسية، يحجبها عن أية قضية، فتصبح هي قضية ذاتها، طمعًا وحفظًا لنَسَبٍ متخيّل لأصلها وفصلها التأملي غير العملاني، ولوضعيتها المترفّعة والمتأتية عن تموضعها غير الشعبي.
إلا أن الفلسفة في عرف فلاسفة آخرين، منذ اليونان، هي لب الصراع، هي البحث والكشف عن شروط الصراعية والعقل (اللوغوس) الكامن خلفها، لا بل هي المواجهة على مستوى الفكر. هي الصراع على مستوى النظرية كما في نص الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير والتراث الماركسي، على سبيل المثال. ولذلك، هي الأداة الثورية والتحرّريّة الأبلغ بعد أن تتخلى عن كونها مبحثًا يتعلق بجواهر الأشياء وطبيعتها المفارقة، وبعد أن تتحوّل إلى تموضع على المستوى التاريخي للأشياء، وللأحداث، ولشروطها، ولبنيتها، ولأبعادها، في محاولة تقويض كل مستوىً يرى أن المسعى الفلسفي موضوعي وغير نفعي، وإلا أصبحت تميل مع كل ميل، وتسير مع كل مصلحة، في حين أنها من المفترض أن تضع نصب عينيها الحقيقة الثابتة وقيم الحق والخير والجمال.
لعل الدواء اليوم في ولادة مدارس وفلسفات جديدة تعيد الفلسفة إلى بيتها بوصفها منظوراً في الحقّ
أما اليوم، وبعد أن وصلت الصراعات إلى هذه الحراجة على مختلف المستويات التأسيسية، خصوصًا المستويات الإنسانية ومنظوراتها الأخلاقية، نرى أنه لا بد للفلسفة من أن تحايث وتوجّه وتبحث جدوى وشروط تعيّن مجالات الصراع، وتسائل كيفيته وأسسه، وتسائل الأخلاقيات المرتبطة فيه وبه. نراها اليوم في موضع مساءلة كل ما ينتج عن الصراعات، وصولًا إلى قيمتها. ولأن الفلسفة في قمّتها وفي ديناميتها مبحث في الحرية، وللحرية، ولأن الفلسفة السياسية علاج لمجتمعاتٍ مريضة، كيف يمكن معايشة ضمور الحرية هذا، وكيف يمكن الصمت أمام تغوّل الفاشية؟ وفي السياق، كيف يمكن تدارك هذه الهوّة التي تفصل اليوم بين عالم غايات الإنسان وعالم القضاء على الإنسان والقضاء معه على شرط شروط الملكات الفلسفية الكامنة بوصفه، أي الإنسان، مجال فعل التفلسف وفاعله؟ كيف يمكن أن تتعايش وتستمرّ المنظومات الفكرية والأخلاقية مع موت الإنسان الحامل للفكر والأخلاق مع موت الصفات الإنسانية في كل هذه الأحداث؟ سيل من الأسئلة المتكاملة التي تتفرّع عن بعضها لتعيد الفلسفة إلى سكّة الضرورة، ولنقل إن ميدان الفلسفة اليوم لا بد أن يشمل ويتخطى كل ما كان يُقال في السابق، ولتعيّن بدورها كل ما يجب أن يقال في المستقبل وما يمكن أن يُقال عليه؟
اليوم، وفي ذروة الضياع الذي يعيشه الإنسان المعاصر ومجتمعاته، تتشابه الحال مع ما ساد خلال الفترة من نهاية القرن التاسع عشر وصولًا إلى تخوم منتصف القرن العشرين، وهيمنة مسرح ضمور الإمبراطوريات والحربين العالميتين، وهيمنة الاستعمار وما نتج عنه من وعد بلفور، ومن حقّ اليهود بوطن قومي ليس وطنهم، ودولة ليست دولتهم، وبعد تغوّل الحركات الفاشية والنازية والعنصرية واليمينية المتطرفة، وفي ذروة التضخم جرّاء الشره الرأسمالي واستباحة العالم والشعوب ومقدراتها، نتجت مدارس فكرية متعدّدة لم تتجوهر مع الوجودية، ولم تُختتم مع مدرسة فرانكفورت الاجتماعية النقدية، لعل الدواء اليوم هو في ولادة مدارس وفلسفات جديدة تعيد الفلسفة إلى بيتها بوصفها منظورًا في الحقّ، بوصفها علاجًا للعالم وأخلاقياته التي يشكّل حقّ الشعب الفلسطيني، بكل تشعّباته، بابها العريض الذي يبدأ من حقّه بالحياة، وينتهي بحقّه في تقرير مصيره على أرضه.