حين يصبح الحديث عن اللامركزيّة جدّيّاً
تَشغَلُ اللامركزيّةُ بال المتربّعين على عرش السلطة حسبًا أنها تقلّص المساحة التي يمارسون فيها نفوذهم. وحينما يعمدون، لسبب أو لآخر، إلى طرحها على بساط البحث، يطرحونها على نحو تطرب له آذان المرؤوسين المؤيّدين فرحًا وابتهاجًا وتهتزّ مشاعرُهم تهلّلًا واستبشارًا، وتتكدّر أنفاس المخالفين اغتمامًا وتبرّمًا وتختلج أفئدتهم تأفّفًا وابتئاسًا. فتحتدّ الألسن في لَوكها احتدادًا يُبكم لغة العقل والمنطق في حسن مقاربتها، وتُستَلَب الأفكار لتصبح عاجزة عن التبصّر في خير مضامينها، وتَكمَه البصائر لتغدو غير قادرة على إنعام النظر في مآلها ومأمولها. بيد أن المسائل في ذاتها تستدعي الانتقال من حالة التلقّي هذه إلى وضعيّةٍ تسمح بالتفكّر في مختلف الجوانب التي تنطوي عليها، لاستبيان المعالجةِ التي، من خلالها، تتكشّفُ المنافعُ التي ينبغي استثمارها وتنجلي المضرّات التي يتحتّم إهمالها. وإذا كانت اللامركزيّة مسألةً، يتجدّد طرحها بين الفينة والأخرى، ذلك أنها بقيت عنوانًا طنّانًا رنّانًا يتردّد في صداها صوتُ الدولة الحديثة، فلا بدّ من تفحّص أحوالها وأشكالها، والتمعّن في مجالها وحدودها، وإطالة النظر إلى معانيها ودلالاتها.
تنص "وثيقة الوفاق الوطني" اللبناني (إتفاق الطائف، 1989)، في الفقرة الثالثة منها، بكلام لا يخلو من التبسيط والمواربة والمسايرة نترك للقارئ التفطّن له، على "اللامركزيّة الإداريّة" في ظلّ "دولة واحدة موحّدة ذات سلطة مركزيّة قويّة"، فتطالب "بتوسيع صلاحيات المحافظين والقائمقاميين وتمثيل جميع إدارات الدولة في المناطق الإداريّة على أعلى مستوى ممكن، تسهيلًا لخدمة المواطنين وتلبية لحاجاتهم محليًّا". كما تنصّ على ضرورة "إعادة النظر في التقسيم الإداريّ بما يؤمّن الانصهار الوطني، ويضمن الحفاظ على العيش المشترك ووحدة الأرض والشعب والمؤسّسات"، وهو نصّ يتوجّسها بصريح العبارة. ثمّ تدعو الوثيقة، بنوع من التناقض، إلى "اعتماد خطة إنمائيّة موحّدة شاملة للبلاد قادرة على تطوير المناطق اللبنانيّة وتنميتها إقتصاديًّا وإجتماعيًّا وتعزيز موارد البلديات والبلديات الموحّدة والاتحادات البلديّة بالإمكانات الماليّة اللازمة". وهي عبارة لا تفصح عن أنها تندرج حقًّا في سياق الكلام على اللامركزيّة، بقدر ما تشير، بصورة عامّة، إلى بعض الموجبات المنوطة بإدارة الدولة على اختلاف أشكالها.
اللامركزيّة ليست نظامًا يعمد إلى إلغاء المركزيّة، بل هي نهجٌ تتوزّع فيه المركزيّة على نحو ينتظم بموجبه تدبيرُ شؤون الاجتماع البشريّ تدبيرًا يقينيًّا
لا ضَير في أن ينطلق النقاش حول اللامركزيّة من هذه العناوين، على الرغم من التباس الدلالات التي تستبطنها، غير أن الكلام الحقيقيّ على اللامركزيّة يَرِد، على نحو يفيد المعاني التي تنطوي عليها، في بعض البنود التي أتت في مقدّمة الدستور اللبنانيّ، سيما الفقرة "ز" منه، التي تنصّ أن "الإنماء المتوازن للمناطق ثقافيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا ركن من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام". وهو نصّ يفصح عن الجدليّة التي ينبغي أن تحكم العلاقة بين وحدة الدولة ولامركزيّة إداراتها، وذلك بتبيان دور الإنماء المتوازن، الذي تقوم به اللامركزيّة، في تثبيت وحدة الدولة واستقرار نظامها، وبإظهار الأهميّة التي تكمن في المظلّة التي توفّرها الدولة ونظامها لهذا الإنماء. فالإنماء المتوازن ركنٌ، وفق هذه الفقرة، لا يستقيم بناءُ الدولة إلّا بوجوده، كما أنه يفقد الفائدة منه ما لم يكن في أساس بنية الدولة، فيتحوّل إلى ذريعةٍ تغدو المناطق بموجبها دويلاتٍ منفصلة بعضها عن بعض، منعزلة داخل حدودها الضيّقة، قد تؤدّي بعض الظروف إلى الانزلاق سريعًا نحو تقاتلٍ مَقيت فيما بينها، فالدولة، مثلًا، التي تتسيَّبُ حدودُها الجغرافيّة، لا تستطيع أن تمنع "الحدود اللامركزيّة" من التسيّب. والدولة التي يرتهن الحكم فيها لإرادة خارجيّة، تعجز عن حماية إداراتها المركزيّة من الارتهان. زد على أن الدولة التي لا تعرف أن تكون واحدةً لا يسعها أن تكون لامركزيّة.
وعلى هذا الأساس، لا ينبغي النظر إلى اللامركزيّة أنها "نقيض" المركزيّة بمعنى الإلغاء والنفي، ذلك أن أداة النفي "لا" التي تدخل على مفردة "المركزيّة" لا تفيد هنا الإبطال. فمصطلح "اللامركزيّة" يروم تأدية المعنى الذي ينطوي عليه المصطلح الأجنبي "decentralization"، الذي لا يستخدم البادئة السالبة، بل البادئة "de" التي تعني في أصلها اللاتيني "حركةً تفيد التحوّل والانزياح". وهي القاعدة التي تنتفي باعتمادها حالة التوجّس من أية إضافة تُربَط بمصطلح اللامركزيّة تعريفًا أو تخصيصًا، كقولنا "اللامركزيّة الإدرايّة أو الماليّة أو الموسّعة أو سوى ذلك...". فاللامركزيّة ليست نظامًا يعمد إلى إلغاء المركزيّة، بل هي نهجٌ تتوزّع فيه المركزيّة على نحو ينتظم بموجبه تسيير شؤون الاجتماع البشريّ تسييرا يقينيًّا. إنها نهجٌ يُبدّل عقليّةَ الحكم المركزيّ بتحويل العلاقة بين الحاكم والمحكوم من علاقة آمرٍ ومأمور إلى علاقةٍ تشاركيّة، يجد فيها المحكوم دورًا له في تدبير شؤون الجماعة التي ينتمي إليها. عندئذٍ، يتيقّن أن القوانين التي يتحتّم عليه التقيّد بها إنما وُضعت لتدبير شؤون الجماعة، وأن تطبيقها يعود بالتالي عليه بالخير بوصفه عضوًا في الجماعة. فلا يحرص على الالتزام بها قسرًا وإكراهًا، بل يستجيب إلى مضامين أحكامها طوعًا واحترامًا. وحينما تُفرض عليه، مثلًا، الضرائب، لا يتهرّب من دفعها خشية أن تضيع في مزاريب الفساد، بل يسدّدها يقينًا منه أنها تعود إليه حتمًا منافع وخدمات.
يرتبط مفهوم اللامركزيّة بمفهوم الديمقراطيّة ارتباطاً وثيقاً ويقترن بها في جميع مندرجاته
وبهذا المعنى، يرتبط مفهوم اللامركزيّة بمفهوم الديمقراطيّة ارتباطًا وثيقًا ويقترن بها في جميع مندرجاته، فالقوانين التي تروم، تحت عنوان اللامركزيّة، توسيع صلاحيات المجالس المحليّة أو تمثيل جميع إدارات الدولة في المناطق الإداريّة على أعلى مستوى ممكن، تسهيلًا لخدمة المواطنين وتلبية لحاجاتهم محليًّا، تبتعد كلّ البعد عن مفهوم اللامركزيّة ما لم يتعزّز هنا دور المرؤوسين في تكوين هذه المجالس والإدارات. ذلك أن تعزيز صلاحيّة القائمقام أو المحافظ أو العميد أو رئيس الجامعة أو أيّ سلطة في الدولة لا يغيّر في نهج الحكم شيئًا ما لم يتولّ هؤلاء الحاكمون سلطتهم بالانتخاب، معزَّزَةً بمجالس منتَخَبة تؤازرها في الإدارة. فتكون، بهذا النهج، القاعدة التي يتأسّس عليها بناء الدولة وتتثبّت وحدتها ويستقر نظامها. وإذا كان بناء الدولة الموحّدة، وفق الفقرة "ز" المذكورة آنفًا، يرتكن إلى إنماء المناطق المتوازن ثقافيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، فذلك يعني أن هذا الإنماء مشروط، من جهة، بالتوازن الذي لا يتوفّر إلّا باعتماد اللامركزيّة وفق الشروط التي أشرنا إليها، ومحكوم، من جهة أخرى، بالتنوّع الثقافيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ الذي تحفظه اللامركزيّة بما هي نظام يتشارك الجميع في إنشائه على نحو ديمقراطي، ويسهرون على حفظه بشكل طوعيّ.
أما الكلام الذي لا يتجاوز حدود البحث عما تستبطنه وثيقة الوفاق الوطنيّ، متكبّلًا بالخوف من أن تتقلّص المساحة التي تُمارِس فيها السلطةُ نفوذها، فلا يتحرّى سوى الآليات التي تنبسط فيها السلطة المركزيّة على نحو لامركزيّ. وهو لا يرقى بالتالي إلى مصاف الكلام الجدّيّ الذي يمعن النظر في معاني اللامركزيّة ويتفحّص دلالتها ويتكشّف مجالاتها ويتقصّى حدودها... أي الكلام الذي يجدّ في السعي إلى إيجاد الآليات التي تنتقل فيها الدولة، التي تهتزّ وحدتها، أقلّه في النفوس، عند كلّ امتحان، إلى مصاف الدولة الحديثة، التي تنبني وحدتها على الإنماء المتوازن الذي يتسهّل باعتماد لامركزيّة تكامليّة، وعلى التنوّع الثقافيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ الذي تكفله لامركزيّة تتكوّن فيها الإدارات المحليّة انتخابيًّا، وعلى التشارك في صناعة القرارات الذي تتيحه لامركزيّة يصل من خلالها الصوت ديمقراطيًّا.