ممّ تخاف إسرائيل؟
لا تتوانى الولايات المتّحدة يومًا عن تدجيج الكيان الإسرائيليّ بمختلف الأسلحة القتاليّة الفتّاكة، الجويّة والبريّة والبحريّة، ولا تتباطأ في تزويده بالأنظمة الدفاعيّة الوثيقة والمُستَحكِمة (أبرزها القبّة الحديديّة)، ولا تتردّد في الوقوف المطلق إلى جانبه مهما اختلفت الظروف، إلى الحدّ الذي يترك انطباعًا، قد يكون في الحقيقة وَهمًا، أننا أمام كيانٍ لا يمكن أن يعتريه الخوف. بيد أن التمعّن في الآليّة التي يتدبّر بها هذا الكيان وجوده، منذ العهد الذي قطعته السلطة البريطانيّة بمساعدة الحركة الصهيونيّة على إقامة وطن لليهود في فلسطين (وعد بلفور، 1917)، يبيّن، بما لا لبس فيه، أن الخوف لا يرتبط بالجانب الأمنيّ وحسب، بل تستبطنه مختلف السياسات التي تنتهجها السلطات الإسرائيليّة المتعاقبة، وتتظاهر فيه بما يشبه المُصاب بعقليّة الضحيّة، ذاك المرض الذي يصوّر به المرء نفسه أنه دائمًا الضحيّة.
لا شكّ في أن إسرائيل تخاف من التنظيمات المسلّحة التي لا تنفكّ تتهدّدها دفاعًا عن أرضٍ أو معتقلٍ أو عقيدةٍ أو مقدّسات... والتي لا تفوّت فرصةً سانحةً إلّا وتقتنصها لشنّ عمليّاتٍ تسعى بها إلى تحقيق بعض ما تصبو إليه، غير أن إسرائيل تستغلّ هذا التهديد، وتنتهزه فرصةً لتوجّه ضرباتها في كلّ اتجاه. فلا تكتفي بالردّ على التهديدات بالمِثل، بل تتذرّع بها لتصبّ جامَ غضبها على المرافق العامّة والبنى التحتيّة والمؤسّسات المدنيّة... لأسباب عديدة تستبطنها. فهي، بقدر ما ترمي، في ما تُعلِن، إلى تعطيل قدرات تلك التنظيمات، تسعى، في خلفيّات الأفكار، وعلى ما يتبدّى من الأساليب التي تستخدمها، إلى إهلاك ما ينافسُ الكيانَ الإسرائيليّ ثقافيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا.
تخاف إسرائيل، مثلًا، من "حماس" أو من كتائب عز الدين القسّام أو من غيرهما، لكنها تخاف، بالدرجة الأولى، من أن تكون فلسطين موحّدة، جغرافيًّا وتاريخيًّا. وهي لم تكن لتقبل بمقرّرات أوسلو 1 (1993) وأوسلو 2 (1995)، إلّا لأنها تُبقي على فلسطين متقطّعة الأوصال، جغرافيًّا وسياسيًّا ودينيًّا، فالكيان الإسرائيليّ يتناقض تمامًا مع ما يمكن أن تكون عليه فلسطين الموحدّة. تلك الأرض التي احتضنت اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، وانتصبت فيها المعابد والكنائس والمساجد. وإذا كان هذا الكيان يدأب بلا كللٍ ولا مللٍ على إبقاء فلسطين على تفكّكها، فلم يتمكّن الفلسطينيّون من التفكّر مليًّا في واقعهم المرير بغية تجاوزه في سبيل إيجاد رادع يصدّ إسرائيل عن المضيّ في نياتها.
تخاف إسرائيل، بالدرجة الأولى، من أن تكون فلسطين موحّدة، جغرافيّاً وتاريخيّاً
وتخاف إسرائيل، أيضًا، من أن تنتهي الحرب في سورية، ويتحوّل هذا البلد من مرتعٍ كَثُرت فيه التنظيمات المتطرّفة والفصائل المسلّحة، واستشرت فيه العصبيّات الطائفيّة والمذهبيّة، إلى بلدٍ يجِدُ في الديمقراطيّة وسيلةً ينتظم فيها المجتمع وتتكوّن بموجبها السلطة. وإذا ما ساد الظنّ أن إسرائيل تنظر إلى التهديد السوريّ من الجانب الأمني وحسب، أي باعتباره خلفيّة دفاعيّة وطريق إمداد، وتتذرّع بذلك كي تتطاول بالقصف على مختلف المرافق، فلا ينبغي أن يَغفُل عن الذهن أن سورية التاريخ العريق، والتراث الثريّ، والأرض الخصبة... تستطيع، بالاستثمار في هذا الجانب الثقافيّ، بمختلف أبعاده الدينيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، أن تناهض المدّ الصهيونيّ وتحجّمه في حدوده، فالكيان الصهيونيّ لا يجد في التوسّع الجغرافيّ مضرّةً، لكنه يركّز على الاستئثار بالدور الذي طالما لعبته المنطقة الواقعة شرق المتوسّط.
يُبيّن المؤرّخ وعالِم الإجتماع الإيطالي فرّيرو (1871 – 1942)، في كتابه "السلطة" (1942)، أن الخوف مكوِّنٌ أساسيّ من مكوّنات الوجود، وأن الإنسان، المجبول تكوينيًّا بالخوف، يكدّ ويجدّ من أجل بلوغ حالةٍ من الاستقرار والأمان. ويرى عالِم الإجتماع السياسيّ لوتشانو بلّيكاني، في معرض تحليله مسألة الخوف التي عرضها فرّيرو، في كتابه "من المدينة المقدّسة إلى المدينة الدنيويّة" (نقله الكاتب من الإيطاليّة إلى العربيّة، دار الفارابي، بيروت، 2019) أن "الآلة الأولى لهزم الخوف تكمن في السلاح. فالإنسان يشعر مع السلاح أنه قادر على مواجهة الحياة ومخاطرها بطمأنينة نفسيّة كبيرة. لكن ذلك يعني أنه قادر أيضًا على التخويف، لأنه يستطيع الاعتداء على الآخرين بالقتل، الذين بدورهم يستطيعون تهديده. ولذلك، كلما تسلّح الناس لهزم الخوف ازداد خوفُهم" (ص 289). ومفاد هذا الكلام أن الخوف لا ينحصر في الحالة الأمنيّة، كما أنه لا يتبدّد بقوّة السلاح. ولا بدّ بالتالي من البحث عن مكامنه في مواضع قد تكون الحالة الأمنيّة واجهةً لها أو ذريعةً يتوسّل بها كي يخفي الأسباب الحقيقيّة الكامنة خلف الأعمال العدوانيّة.
تخاف إسرائيل من أن يكون محيطها قويًّا، وتخاف قبل كلّ شيء من أن يُدرك هذا المحيطُ مكامنَ خوفها
يحتلّ الخوف من المقاومة المسلّحة في لبنان حيزًّا في نفوس الإسرائيليّين، شعبًا وسلطة، بيد أن الحيّز الأكبر يشغله الخوف من التهديد الوجوديّ الذي يشكّله جارٌ منقطع النظير في الدور التاريخيّ الذي طالما لعبه، على الرغم من الاضطرابات التي تصيبُه من حينٍ إلى آخر، أعني هنا لبنان، وطن الرسالة، فالكيان الصهيوني، بوصفه كيانًا دينيًّا (يهوديًّا) وأيديولوجيًّا (صهيونيًّا)، يرتاع من وطن، على حدوده، سيّد حرّ ومستقلّ، "يقوم، بموجب الدستور، على احترام الحريّات العامّة وفي طليعتها حريّة الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعيّة والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين من دون تمايز أو تفضيل". كما يرتعب هذا الكيان من أن يبقى هذا البلدُ، الذي مَنَّ عليه الله بمواردَ طبيعيّةً وخيراتٍ بشريّةً، صلة الوصل بين الشرق والغرب، صرحًا يزدهر فيه العلم والفلسفة والآداب. وينذعر من أن يظلّ مركزًا مصرفيًّا رائدًا في العالم العربيّ، ومستشفى يتعافى فيه كلّ مريض... وهو، إذ يعمل بمختلف الوسائل على تفكيك هذا البلد، يستثمر في كلّ زلّة من زلّاته، ويستغلّها فرصةً ليستولي على المواقع التي طالما شغلها.
ومن هذا المنطلق، يتظهّر أن نظريّة الفيلسوف الألمانيّ هيغل (1770 – 1831)، التي تفيد بأن الإنسان يختلق عدوًّا كي يُثبت ذاته، تنطبق تمامًا على إسرائيل، التي تسعى، في مجمل الميادين، إلى تثبيت وجودها انطلاقًا من مزاحمة كلّ ما يحيط بها، فهي تخاف من أن يكون هذا المحيط قويًّا، وتخاف قبل كلّ شيء من أن يُدرك هذا المحيطُ مكامنَ خوفها، فينفضح زعمها وتسقط الذرائع التي تستخدمها، في معظم الأحيان، لغاياتٍ في نفسها، تتجاوز حدود الصراع العسكريّ.