خبز على طاولة البوكر
من أصعب المهمّات التي أواجهها في حياتي الثقافية التحكيم لجائزة أدبية، ففي كل مرّة أجدني فيها محكّمة لجائزة، أستشعر رهبةً تسكنني طوال فترة التحكيم، وربما حتى بعد الانتهاء من المهمّة. حدث هذا دائماً، حتى إنني اعتدتُه طقساً لا بد منه كلما لاحت لي في أفق العمل الثقافي إشارة إلى مهمة جديدة من هذا النوع.
في المهمة الخاصة بتحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، في دورتها أخيراً، كان شعور الرهبة مضاعفاً، لأسبابٍ لا تتعلق بقيمة الجائزة ومكانتها في أوساط الروائيين العرب وحسب، ولكن أيضاً لما يمكن أن أسمّيها النميمة التي تُصاحب هذه الجائزة في كل مرّة بعد إعلان قائمتها الطويلة، ثم القصيرة، وأخيراً نتيجتها النهائية. اعتدنا، نحن القراء والمشتغلين بالشأن الثقافي العام، هذا النوع من النميمة التي تصل، في أحيانٍ كثيرة، إلى حد الاتهامات والخصومات وغيرها من سلبياتٍ تكاد تُفسد الفرح باكتشاف رواياتٍ جميلةٍ وروائيين مبدعين لم يكونوا قبلها على خريطة الشهرة والرواج بين القرّاء.
انتهت الدورة الـ15 من جائزة البوكر العربية، التي شاركتُ في تحكيمها، إلى جانب زملاء وزميلات، برئاسة الروائي والناقد الأكاديمي شكري المبخوت، حيث خرجتُ من المهمّة بحمولة ثقيلة من المتعة التي استخلصتها من قراءة ما يزيد على 120 رواية، قبل أن نصل بعد ثلاث جولات من التحكيم التفاعلي المباشر، استغرقت ساعاتٍ طويلة، إلى رواية "خبز على طاولة الخال ميلاد" للشاب الليبي، محمد النعّاس، فتكون هي الرواية المستحقّة للجائزة، من بين ست رواياتٍ وصلت إلى القائمة القصيرة، تستحق كلها، كما أرى، أن تكون في واجهة الإبداع الروائي العربي بأحدث صوره ومعطياته. فتلك الروايات، وبعض روايات القائمة الطويلة، تبشّر بثورة روائية عربية مفعمة بالإبداع والأصالة الفنية، ويستحقّ مؤلفوها ثناءً استثنائياً، إذ نجحوا، من خلالها، باستحقاقات فردية كبيرة ولافتة فعلاً. وعندما تفوز جائزة واحدة فقط من تلك الروايات الست التي وصلت إلى القائمة القصيرة، فلأنها حقّقت رغبة أعضاء لجنة التحكيم في الوصول إلى قرار نهائي بصورةٍ جماعيةٍ لا لبس فيها ولا خلاف، ولا حتى مجرّد اختلاف، ولعل هذه من الحالات التحكيمية النادرة.
لن أتحدّث، وفقاً لشروط المهمة المسبقة، عن تفاصيل النقاشات المطوّلة جداً بيننا، نحن أعضاء لجنة التحكيم، قبل الوصول إلى هذه النتيجة، ولكنني أستخلص منها حكمة التهادن في النقاش، مهما احتدّ، وسلاسة التوافق بيننا للعبور من مرحلةٍ إلى أخرى، بحرّية تامة امتلك فيها كلٌّ منا رأيه الخاص والمستقل، كما امتلك حريته في الدفاع عن ذلك الرأي بكل ما أوتي من أدوات نقدية. وهو ما ساهم بتنقية ظنوني المسبقة من شوائب ترسّبت على هوامش جائزة بوكر، تحديداً في دورات سابقة، لبعض نتائج لم أكن أراها موضوعية للأسف. على أن ذلك ضاعف من ثقل الإنجاز الفردي في أثناء التحكيم، فرغم الحرص الشديد على موضوعية الاختيار، في مهمّةٍ تعتمد على الذائقة الإبداعية الخاصّة، وهنا تكمن الصعوبة كلها، إلا أن ذلك لم يمنعنا من توقّع ردود فعل تكرّر في أشكالها بعد إعلان نتيجة كل مسابقة من المسابقات الأدبية غالباً. وهذا ما يشجّع على توكيد المؤكّد في معنى الجائزة التي تعتمد على مسابقةٍ يشارك فيها كثيرون يعرفون شروطها، وينبغي أن يكونوا قابلين بنتائجها مهما كانت، فالجائزة الأدبية لا تعني سوى أن العمل الفائز بها قد حاز إعجاب لجنة التحكيم أكثر من غيره. هكذا، بكل بساطة، تناولنا خبز الجائزة على طاولة البوكر بتلك اللذّة المتوقعة، بعيداً عن أي توقعاتٍ بعسر الهضم لدى من يحبّون ممارسة النميمة على هوامش الأحداث الجميلة.