خديعة التقويم السنوي
عدت إلى مكتبي في مقر العمل بعد إجازة رأس السنة، لأجد أكثر من تقويم سنوي جديد في الانتظار، إهداءات من شركات ومؤسسات على عادتها بداية كل عام جديد. كانت التقويمات جميلة ومبتكرة بأفكارها ورسوماتها، لكن التواريخ فيها واحدة طبعا.
لم أفتح أيا منها، بل عمدت إلى جمعها لتوزيعها على من يحب من معارفي. لكنني، وأنا أجمعها، فكّرت في الفكرة. وتوقفت قليلا لأتذكر آخر مرة استخدمت فيها هذه التقاويم السنوية بشكل حقيقي.
اكتشفت أنني توقفت منذ سنوات قليلة عن فكرة التخطيط لعام كامل مع بداية العام الجديد. ربما لأنني اكتشفت أنها مجرّد خدعة صغيرة، نخدع بها أنفسنا للمضي في لعبة الزمن الذي لا يتوقف عند محطةٍ دون أخرى، ولا يغير سرعاته بين فترة وأخرى. نحن من نفعل ذلك، ولكننا اخترعنا فكرة التقاويم والأيام والأشهر والسنوات، فقط لنجعل من أنفسنا ككائنات بشرية محور الكون.
ماذا يعني أن ينتهي عام ويبدأ آخر؟
ماذا يعني أن ننزع آخر ورقة من التقويم السنوي لنفتح التقويم الجديد؟ وماذا يعني أن نقتنع ببدايات جديدة مع بداية كل عام في كل شيء نعيشه تقريبا؟ لا شيء .. لا شيء حقيقيا. ولو تأملنا تفاصيل لعبة الزمن كما نعيشها جدّيا، لعلمنا أننا العنصر المخدوع في كل تفاصيل اللعبة، ولاعترفنا بأننا نحن من نخدع أنفسنا فقط لكي نستمر في أداء الدور الجدّي والخطير، رغم أنه، في حقيقته، مجرّد دور هامشي لا يغادر مرحلة الانتظار.
نعبر العام الجديد، إذن، ونحن مثقلون بتركة الأعوام السابقة كلها، مقتنعين بأنها قد تلاشت، فلا بد من بداية جديدة وفقا للتقويم التاريخي المفصل أمامنا بالأشهر والأسابيع والأيام والساعات وحتى الدقائق. نتسابق لملء هوامش التقويم البيضاء بخططنا وبرامجنا ومواعيدنا وإنجازاتنا المتوقعة أو المشتهاة، وبكل ما أجلناه في السابق ليكون مشروعنا المقبل، ونجلس تحت الهامش، بانتظار ما سيتحقق منها فعليا على أمل الوصول إلى نهاية العام بتركة أقل من تركات الأعوام السابقة.. ولا جديد!
حدث لي هذا سنواتٍ كثيرة، قبل أن أشعر بالملل من تلك الخدعة المستمرّة، والتي تطل برأسها نهاية كل عام بلا ملل، لكنني قرّرت، أخيرا، أن أوقف تلك اللعبة، وإنْ من طرف واحد، ليقيني بأن النهر لن يتوقف، وأن المحطّات لا توجد في الحقيقة، وأنها مجرّد رسوم على الضفاف، وأننا وحدنا من نتغير أو نتطور أو نتقهقر أو نموت في السكون.
عندما أقلعت عن عادة وضع التقويم الصغير ذي الأوراق التي تنتزع منه يوما بيوم على مكتبي، شعرتُ بتحرّر خفي من وطأة الزمن بسمت الوقور، وهو يطاردني كلما هممت بنزع الورقة المنتهي يومها وقراءة ما كتبته في هامشها الأبيض سابقا. تحرّر مريح جدا ساهم في شعوري بأنني أفعل ما أريد في اللحظة التي أريد وحسب .. أو على الأقل أحاول ذلك ما استطعت إليه سبيلا!
انتهى عام وبدأ آخر كمجرد عبور في الرحلة التي لا أعرف إن كانت قصيرة أم طويلة، فقياساتها نسبية وخاصة، وهي قياساتٌ متغيرةٌ وفقا لشعوري بالسعادة أو الفرح أو الحزن أو القلق أو الألم أو الخفة أو الصخب أو الهدوء أو الراحة والسكينة.. وعليّ وحدي تحمّل ما أريده منها، فلا الزمن مسؤول عن كسل أو عمل، ولن أهتم لرصد ذلك. أما ما أكتبه الآن فليس سوى توكيدٍ على قيمة حريتي الصغيرة في هذه الأيام المبكرة من العام الجديد التي ينشغل فيها كثيرون بوضع الخطط!