خطة بوتين الاقتصادية
كانت أوكرانيا قبل الحرب الراهنة تلعب دوراً مهماً في ترتيب سلة غذاء العالم، وخصوصاً فيما يتعلق بالشرق الأوسط، وكان قمحها يتحرّك عبر البحر الأسود إلى المتوسط، ليتوزع على كل أرجاء الإقليم، فلبنان كان يستورد أكثر من ثلاثة أرباع قمحه منها، وكذلك كانت قطر تستورد 65% من مجموع وارداتها من القمح من أوكرانيا، وكانت كل من تونس وليبيا وباكستان تعتمد عليها في نصف القمح الذي تستهلكه، فيما كانت كل من مصر وإندونيسيا وماليزيا وبنغلادش تستورد من أوكرانيا ربع احتياجاتها من هذه المادة! طفت هذه المعلومات على السطح بعد أن بدأت الحرب، وأصبحت الدول المتضرّرة تتململ من نقص الواردات، فيما كانت الأسعار تتصاعد، معلنةً عن أزمة ونقص في أسواق القمح العالمية، إذ شرعت دول الاستيراد بالبحث عن بدائل سريعة، خصوصاً وأن الدول المستوردة تعتمد في ثقافتها الغذائية على القمح مصدراً أول في سلم التغذية اليومي، وأي انقطاع في التوريد يمكن أن يشيع اضطراباً في السوق، وهذا ما حدث بالفعل، بعد أن فُرض حصار على موانئ أوكرانيا، وتعذّر عليها نقله من الصوامع نتيجة الحرب، ولم يكن أمام المستوردين إلا الخيار الثاني المطروح، وهو روسيا ذاتها.
تُعدّ روسيا مصدّراً رئيسياً آخر للحبوب في العالم، وقد قال وزير الزراعة الروسي إن لديه حوالي خمسين مليون طن متاحة للتصدير مع بداية الموسم الزراعي هذا العام، ولكن الحصاد الروسي الأهم جرى في الفترة السابقة، حيث تم استغلال وقف الإمدادات الأوكرانية لتشهد الساحة نشاطاً تصديرياً محموماً للحبوب الروسية، فقد سجّلت موانئ جزيرة القرم زيادة تقدّر بمليون طن، اتجهت نحو الشرق الأوسط، وخصوصاً مصر وتركيا وإيران. استفادت روسيا من استثناء الأغذية من باقة العقوبات الأميركية والأوروبية، وقد وظّفت هيمنتها وسيطرت قواتها على كثير من مخازن الحبوب الأوكرانية، ما ساعدها على مدّ يدها إلى تلك المخازن، وبيع محتوياتها لصالحها بالسعر الجديد للحبوب الذي ارتفع حين أقفلت أسواق التصدير الأوكرانية. وكان الروبل في أواسط إبريل/ نيسان قد تحرّك بالفعل صعوداً، رغم انخراط روسيا في الحرب، وإغراقها بسيلٍ من العقوبات، ومنعها من استخدام الشبكة العالمية للتسهيلات المصرفية، ولكن فلاديمير بوتين، وكما يليق بمرابٍ عتيد، استغل كل فرصة متاحة، ليستفيد من الحرب التي أشعلها.
تبدو روسيا حالياً وقد أصبحت واثقةً من حاجة السوق إلى منتجاتها، لذلك وافقت على عقد اتفاق مع أوكرانيا، بمشاركة تركيا والأمم المتحدة، يتيح لأوكرانيا تصدير ما تبقّى في صوامعها من الحبوب، عبر موانئها في الجنوب على البحر الأسود، وهي الموانئ ذاتها التي تضع روسيا عينها عليها، وكانت أوكرانيا قد نشرت ألغاماً كثيرة حول تلك الموانئ، ما يجعل الاقتراب منها خطراً أكيداً. وبموجب هذا الاتفاق، ستكون أوكرانيا مجبرةً على فتح ممرّات آمنة للسفن التي ستحمل منتوجاتها من الحبوب والزيوت النباتية إلى دول العالم، ما يفتح المجال أمام استغلال روسيا هذه الممرّات، حين تصبح خاليةً من الألغام، في أي هجومٍ محتمل في المستقبل.
بدت أميركا سعيدةً بمثل ذاك الاتفاق، وتركت الأمم المتحدة تسير بالعملية حتى فصلها الأخير. ولكن إذا كانت تعوّل على الوفاء الروسي، فرهانها خاسر، ففي يوم إنجاز الاتفاق قصفت القوات الروسية مدرسة، وقتلت مدنيين هناك، فيما يبدو بوتين ماضياً في خطةٍ تشبه، إلى حد بعيد، خطط الهيمنة السوفييتية القديمة، باستخدام أدوات عسكرية، وكذلك اقتصادية. لم تنته الحرب وليس هناك ما يوحي بانتهائها وقد حولتها روسيا من حرب حول خلافات قومية وعقارية، إلى حرب اقتصادية واسعة، واستخدمت ما تملكه من قوة للإيقاع بالعالم، وما زال بوتين يدير اللعبة، وعينه على الجائزة الكبرى، وهي البحر الأسود برمته، وكل الشواطئ الأوكرانية الجنوبية.