خلاصات أولى من مونديال قطر
خلاصاتٌ غزيرةٌ في الوُسع أن يقع عليها واحدُنا مما شوهد وتوبع في أثناء كأس العالم لكرة القدم في قطر 2022، يخصّنا، نحن العرب، منها كثيرٌ يلزم، بإلحاح، أن يُصار إلى البناء عليه، على غير صعيد ومسألة، إذ لا يجوز أن يشغلَنا التغنّي بالنجاح القطري الفريد والمبهر في تنظيم البطولة الكونية عن المضي إلى نجاحاتٍ عربيةٍ أخرى في غير شأن، انطلاقاً مما جرى إنجازُه وعوين في المونديال، رياضياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً. ولا يجوز، أبداً، أن يصبح الحدثُ الاستثنائيُّ مناسبةً جميلةً انقضت، وانفضّ سامرها، من دون العمل الجدّي على تثمير الإيجابيات التي ازدحمت في أثنائها، فالكرنفال المبهج في ملاعب لوسيل وخليفة والثمامة والبيت و...، وكذا الاجتماع الإنساني الذي فرِح بالأمن والدّعة، واستمتع بأجواء بهيجةٍ في أسواق قطر وميادينها، حملا مضامين غايةً في الأهمية، تفرض نفسها، على أهل القرار وصنّاعه العرب، وكذا على المشتغلين بالدرس الاجتماعي والثقافي بشأن الأمة وأحوالها وراهنها ومستقبلها.
لمّا كانت التظاهرة رياضيةً في كرة القدم، الأدعى أن يجري الاكتراث المهني، لا المهرجاني الدعائي، ببناء منتخباتٍ وطنيةٍ عربيةٍ على أعلى درجات الكفاءة والتميّز، في مستطاعها التباري مع مختلف الفرق الأجنبية، بإحساس القادر على إحراز الفوز، لا بالشعور بما يسمّى "شرف المشاركة"، ولا بالزهو بأن المنتخب العربي الفلاني إنما يلاعب هذا المنتخب الثقيل أو غيره. وألا تسرقنا الأفراح بإنجازٍ هنا أو هناك عن الالتفات إلى حقيقة أنها كرةُ القدم، وأن العبرة بالنتائج، فإذا كان المنتخب السعودي قد هَزم منتخب الأرجنتين، وكان هذا حدثاً استحقّ فائضاً من الفرح، إلّا أنّ التزيّد في الفرح، من قبيل إعلان المملكة يوم عطلة ابتهاجاً بالفوز (!)، لم ينفع في مباراتي المنتخَب التاليتين، عدا عن أنّ منتخب الأرجنتين المهزوم وصل إلى المنافسة على الكأس الذهبية مع منتخب فرنسا الذي غلَبَه منتخب تونس. نحتاج، نحن العرب، إلى كثيرٍ من المأسسة المهنية الاحترافية، البعيدة عن تدخّلاتٍ من هنا أو هناك، في تأهيل قدراتٍ شابّةٍ متجدّدةٍ في كرة القدم، على ثقةٍ كبرى بإمكاناتها، تقدّم أداء لافتاً في الملاعب. وإذا كان نموذج المنتخب المغربي يفيضُ بالدلالات والإيحاءات، فإنّ مما يحسُن أن نتملّى فيها نجاحات منتخب كرواتيا المتوالية، وهو الذي كاد يخطف كأس العالم في مونديال روسيا 2018، وأحرز برونزيةً ثمينةً مستحقةً في مونديال قطر، وعدد سكان كرواتيا أربعة ملايين، وأصبحت دولةً معترفاً بها في 1991، وتأخذ بالديمقراطية الحزبية وتداول السلطة.
أما إنجاز قطر في تنظيم أفضل مونديال، بشهادة رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا)، جياني إنفانتينو، من دون أن تعوقها حملاتُ التعريض بها، والضخّ الإعلامي إياه الذي مارس فوقيةً بغيضةً ضدها، فإنه يشهد على أنّ في وسع أي دولةٍ عربية، مقتدرةٍ مالياً أو ليست كذلك، أن تصنع الكثير مما يمكنُها صنعه، إذا ما توازت فيها الإدارة المحترفة مع الإرادة الواثقة، وإذا واجهت أياً من التحدّيات والمشكلات، القائمة والطارئة، بالتماسك الاجتماعي والاستقرار السياسي. ولعلّ دولاً عربية، لا تنقصها الكفاءات والقدرات والخبرات والمواهب، ولا الشعور الوطني الجامع، تستطيع أن تُحرِز نجاحاتٍ كبرى في غير شأنٍ، ليس فقط في استضافة مؤتمراتٍ دوليةٍ عابرة، ولا في بناء أكبر مسجد، أو تنظيم أفضل مهرجان سياحي أو سينمائي، وإنما في إظهار نفسها صاحبة حضورٍ ثقافي وفني في العالم، فاعلة في متنِ العالم لا في هامشه، إذا ما عملت جيداً على تعزيز قوتها الناعمة، ودعمت كفاءاتها، ويسّرت لها كل ما يلزمها من شروط الإبداع والتميّز، وقبل هذا كله وبعده، إذا ما سلكت السلطةُ نهج المصالحة مع الشعب، ونبذت كلّ أسباب التوتير والتأزيم والاحتدام السياسي والأمني.
وثالث خلاصات أولى، ترتئي هذه السطور المرورَ عليها، أنّ مونديال قطر أكّد المؤكّد عربياً، بدا مرآةً أظهرت النظيف والجميل والبديع فينا، نحن العرب، بوصفنا أمة، يعتزّ كلّ فردٍ منا بوطنه، ويرتبط، في الوقت نفسه، بالمجموع العربي، ليس شعوراً وفيضاً وجدانياً وحسب، بل أيضا انتساباً إلى أفقٍ واحد، إلى مشتركٍ ثقافيٍّ جامع، إلى وعاءٍ حضاريٍّ وسياسي واحد، وليس أدلّ على هذا مما تبدّى من رفضٍ مطلقٍ لأي تواصل مع أي صحافي إسرائيلي في قطر، ما أصاب دولة الاحتلال بالغيظ، وكذلك الحضور البديع لأعلام فلسطين التي رفعها المشجّعون العرب في الملاعب. والرسالة هنا شديدة الوضوح، ومعلومة الوجهة...