خلاف سياسي وقرارات شعبوية في ليبيا
منذ انتخاب مجلس النواب في العام 2014 خلفا للمؤتمر الوطني العام، شهدت ليبيا انقساماً مؤسساتياً بين الشرق والغرب، إذ ساهمت حرب "فجر ليبيا" في وجود حكومتين تتنازعان الشرعية، إحداهما في المنطقة الشرقية تابعة للبرلمان ومعترف به، وسميت حينها بالمؤقتة، واستمرّت رغم اسمها سنوات. وتعاقبت على الغرب الليبي أكثر من حكومة، أولها حكومة الإنقاذ التي ترأسها خليفة الغويل، وحظيت هذه حينها بدعم "المؤتمر الوطني" الذي كان خاضعاً لسيطرة الإسلام السياسي ونفوذه. فرضت هذه الحكومات نفسها، ومارست مهام لم يكلفها بها أحد، وسط تدنٍّ غير مسبوق في كل القطاعات الخدمية، فالمولّد الكهربائي صار من الأساسيات التي تعوّض المواطن الليبي، القادر على شرائه، عن خدمات شركة الكهرباء التي عجزت عن ذلك، رغم المليارات التي صرفت لها. أما السفر إلى الدول المجاورة فلكشف طبي وإن كان بسيطاً، أو الحصول على دواء خلت منه أرفف الصيدليات، وإن وجد فإنه منتهي الصلاحية أو مجهول المصدر، فلم يعد خياراً أمام المرضى الذين تسمح لهم مدّخراتهم أو بيع ممتلكاتهم بذلك، حتى أصبحت المصحّات في دول كثيرة، خصوصاً المجاورة، مكتظّة بالمرضى الليبيين الذين أقفلت في وجوههم مرافق صحية صُرفت عليها المليارات، وأصبح كثيرون منهم عرضة للتحايل والابتزاز. أما الحصول على مرتبات منتظمة أو سيولة نقدية من مصرفٍ فيعدّ ترفا غالباً ما يكون صعب المنال.
أُرغم الفرقاء على الذهاب الى الصخيرات في المغرب، والجلوس بوساطة إقليمية ودولية، ولم يكن هذا من أجل سواد عيون الليبيين، بل لحرص هذه الأطراف على الوجود في المشهد الليبي، ليكون لهم نصيب من أي تسوية سياسية بما يحقّق مصالحهم، وانتهى اللقاء إلى استحداث المجلس الرئاسي الذي دخل إلى طرابلس على متن فرقاطة بحرية، بعدما رفضت بعض المليشيات فتح المجال الجوي أمامه، متعللةً بالطريقة التي جرت فيها عملية اختياره، وهي في الواقع متوجسّة من أي اتفاق دولي أو محلي قد يؤدّي إلى حلّ هذه المليشيات ومحاسبتها على الجرائم التي اقترفتها طوال أكثر من عشر سنوات.
حاولت الأطراف الليبية استمالة سكان المناطق الخاضعة لسيطرتها للبحث عن مصادر تمويل تستطيع من خلالها شراء ذمم وفرض سيطرة وضمان ولاءات
حاول فايز السراج، الذي لا يعرف أحد كيف جرى اختياره ومن الذي اختاره، ليكون على رأس المجلس الرئاسي، الحصول على ثقة مجلس النواب وفشل في مرّتين، الأمر الذي جعله يزاول عمله عن طريق وزراء مفوّضين وحكومة لا تسيطر إلّا على مساحة صغيرة من الغرب الليبي، لتستمرّ، في المقابل، حكومة الثني (المؤقتة) في عملها في المنطقة الشرقية تحت الإشراف المباشر من الجنرال خليفة حفتر وأولاده ومن يدور في فلكهما، لتتبخّر بذلك أحلام الحكومة الواحدة بصدام مؤسف، مع تعنت كل طرف وادّعائه الشرعية من دون أي محاولة للوصول إلى كلمة سواء، يمكن أن تجنب البلاد مآسي الحروب والانقسامات.
سعى كلّ طرف إلى الحصول على الاعتراف الخارجي باعتباره إحدى الضروريات، بل أهمها، لضمان شرعيته، إلّا أنّ هذه الأطراف حاولت أيضاً، وإن على استحياء، استمالة سكان المناطق الخاضعة لسيطرتها باتخاذ قراراتٍ في ظاهرها التخفيف من معاناتهم، وفي باطنها البحث عن مصادر تمويل تستطيع من خلالها شراء ذمم وفرض سيطرة وضمان ولاءات. ولكي تستطيع ذلك، كان لزاماً التفكير في توفير السيولة النقدية التي تعدّ المشكلة القديمة المتجدّدة في ظلّ عدم ثقة الشعب في النظام المصرفي، ما جعل المودعين يفضّلون الاحتفاظ بالسيولة، بعيداً عن مصارف أصبحت عاجزةً عن الإيفاء بمتطلبات زبائنها، فاتجهت الحكومتان، الشرقية والغربية، إلى طباعة النقود، فاختار السرّاج لندن، حيث طبعت المطابع الإنكليزية ثمانية مليارات دينار ليبي، دخلت الى سوق المناطق الغربية، في محاولة لحلّ مشكلة الرواتب المتأخرة، وتوفير سيولة في بلدٍ لا يتعامل إلا بالنقد ولا يعرف ثقة في صكوك أو بطاقات نقدية، وإن وجدت، فالثمن يكون مضاعفاً للسلع.
امتناع مصرف ليبيا المركزي في طرابلس عن إرسال السيولة إلى مدن المنطقة الشرقية جعل المصرف في بنغازي يبحث عن الدولة التي يمكن أن تؤمن له طباعة العملة، ووافقت روسيا، بعدما رفضت بريطانيا وبعض الدول الغربية ذلك. وبالفعل، تمت الطباعة من جديد ومن دون أن تكون هناك احتياطات أو أي تغطية مالية، عملة اقتصر التعامل بها، في البداية، في المناطق الشرقية، فاستخدمتها المصارف في سداد رواتب موظفي تلك المناطق وتسديد ديون الحكومة هناك، كما جرى استخدامها في شراء العملة الصعبة، الأمر الذي أدّى إلى تضاعف سعر الدولار في السوق الموازية، ليصل إلى مستويات قياسية لم يصل إليها من قبل. وعلى الرغم من مطالبة المجلس الرئاسي في طرابلس بوقف التعامل مع هذه العملة، واعتبارها مزوّرة، واصفاً الإقدام على هذه الخطوة بالانتحار الاقتصادي الذي سيساهم في تجذر الانقسام السياسي، ويمهد لأن تصبح ليبيا دولتين لكلّ منهما عملتها، حسب وصفه، لكنّه اضطرّ، في النهاية، إلى قبول التعامل بها، واعتبارها واقعاً لا يمكن تجاهله.
لم يدم شهر العسل طويلاً بين البرلمان وحكومة الدبيبة، فسرعان ما مارس مجلس النواب هوايته في عرقلة أي اتفاق
ساهمت الأوراق المالية المطبوعة في حلّ بعض مشكلات الرواتب المتأخرة وتوفير السيولة في بعض المصارف، لكن من جهة أخرى خصّصت مبالغ كبيرة منها في الجانب الحربي، إذ زوّدت الحكومة المؤقتة والمصرف المركزي في بنغازي حفتر بأموالٍ جعلته يطمئن إلى وجود الغطاء المالي في حربه على طرابلس، في وقتٍ خصص المجلس الرئاسي مبالغ بالمليارات لوزارة الدفاع للدفاع عن العاصمة، فأدّى وجود هذا التمويل إلى إطالة أمد الحرب بين الطرفين. ثم انتهت الحرب، تاركة خلفها آثارا نفسية واجتماعية وخسائر في أرواح وممتلكات دفع المواطن الليبي وحده ثمنها. أما السياسيون فتنادوا من جديد ملبّين نداء مبعوثة الأمم المتحدة إلى ليبيا، ستيفاني ويليامز، ليجتمعوا في تونس وجنيف، ويختاروا حكومة انتقالية جديدة، ترأسها عبد الحميد الدبيبة، الذي استطاع نيل ثقة البرلمان، في خطوةٍ بعثت الأمل في الاتفاق، وإنهاء الانقسام والتفاهم من جديد.
لم يدم شهر العسل طويلاً بين البرلمان وحكومة الدبيبة، فسرعان ما مارس مجلس النواب هوايته في عرقلة أي اتفاق، فحجب الثقة عن هذه الحكومة، بعدما استبشر الليبيون خيراً باتفاقهما، غير أنّ الحكومة استمرت في ممارسة أعمالها، معتمدةً على الدعم المالي من المصرف المركزي في طرابلس، واستطاع رئيسها كسب رضا الشارع، خصوصاً فئة الشباب، إذ عزف على وتر الظروف الاقتصادية التي يمرّون بها، فأعلن عن تخصيص عدة مليارات لدعم صندوق الزواج، بالإضافة إلى مضاعفة الرواتب لأكثر من قطاع، ناهيك عن المنح المالية المتعدّدة، في إجراءاتٍ أتت أكلها في خروج مظاهراتٍ ندّدت بقرار البرلمان حل الحكومة، بل وذهبت إلى أبعد من ذلك بالمطالبة بإسقاطه. أدرك مجلس النواب اللعبة، وحاول القيام بالإجراءات نفسها على غرار ما قامت به الحكومة في طرابلس، في محاولة لكسب رضا الشارع وتأييده، أو على الأقل للتخفيف من موجة الغضب تجاهه، فسارع إلى إعلان أن زيادة الرواتب الذي أعلنته حكومة الدبيبة هو قرار سبق للبرلمان أن أصدره وعرقله محافظ مصرف ليبيا المركزي في طرابلس، بحجّة عدم وجود ميزانية كافية لذلك، كما أصدر البرلمان قراراً آخر أعلن فيه عن دعم كلّ أسرة ليبية بمبلغ 50 ألفاً، مع استثناء المستفيدين من منحة الزواج التي أقرّتها الحكومة.
وعود وإسهاب في قرارات شعبوية غير مدروسة تحاول دغدغة العواطف، وكسب تأييد الشارع، من دون أي خطط استراتيجية أو تنموية
وعلى المنوال نفسه، وبمجرّد استحداثها، انتهجت ما تعرف بحكومة الاستقرار، برئاسة فتحي باشاغا، الأسلوب نفسه. وعلى الرغم من عدم قدرتها على ممارسة أعمالها من طرابلس في ظل رفض الدبيبة تسليم السلطة، لكنّها أطلقت وعوداً كثيرة تدور كلها حول المنح المالية وتحسين المرتبات، ولعلّ جديدها ما أطلقه وزير المالية بهذه الحكومة أنّه سيمنح كلّ أسرة ليبية مبلغاً وقدره 50 ألف دينار، حال استلامها السلطة في العاصمة.
وعود وإسهاب في قرارات شعبوية غير مدروسة تحاول دغدغة العواطف، وكسب تأييد الشارع، من دون أي خطط استراتيجية أو تنموية في بلد لا يزال ينتهج النموذج الاقتصادي الريعي، والذي يمثل النفط أكثر من 90% من إيراداته، فيما هذه الزيادة في الإنفاق الحكومي ستؤدّي إلى تضخّم بدأت بوادره تلقي بظلالها على كلّ مناحي الحياة، وسيزداد الأمر سوءاً إذا ما تراجعت أسعار النفط عن هذه المستويات القياسية التي وصلت إليها في الأسواق العالمية، ناهيك عن التهديد المستمر بإغلاق حقول النفط، والذي كان جديده أخيراً البيان الذي أصدره ممثلو حفتر في لجنة 5+5.
ختاماً، بالتأكيد، يعاني المواطن الليبي من أزمات في كلّ مناحي حياته، إلّا أنّ الحلول لن تكون بمثل هذه القرارات العشوائية غير المدروسة، فمشكلاته لن تُحل في وجود نخبة محلية فاسدة وإرادة دولية مستفيدة تعمل على دفع الأزمة نحو مزيد من التعقيد، حتى تسلّم البلاد مفلسة إلى البنك الدولي، ليتولّى باقي المهمة.