دبكات برلمانية سورية
في زاوية "العربي الجديد"، 19 مايو/ أيّار 2024، كتبتً، أنا محسوبكم، بالخطوط العريضة، عما فعله حافظ الأسد بالمؤسّسة التشريعية السورية، البرلمان، إذ حوّلها إلى مُنظّمة شعبية، لا تختلف كثيراً عن اتحاد شبيبة الثورة، واتحاد الفلاحين، ومُنظّمة طلائع البعث، وأكّدتُ أنّه نجح في ذلك نجاحاً باهراً. وممّا يُغري، ويُسلّي، الآن، أن أدخل في تفاصيل عملية التحويل الخطيرة، التي أضعفت الدولة السورية، لمصلحة السلطة الاستبدادية.
لم يكن هذا المنطلق الشعبوي جديداً علينا نحن السوريين، فالدولة البعثية، منذ 1963، تفخر بأنّها دولة العمّال والفلاحين، والكادحين، ولم تكتفِ بالفخر، بل قامت بإجراءات التأميم التي أدّت إلى تفتيت المُلكية الزراعية، وإحباط مسيرة التطوّر في القطاع الصناعي، التي كانت تقودها البرجوازية الناشئة. الجديد، من وجهة نظري، أنّ حافظ الأسد، لكي يجعل تركيبة المجلس شعبية، وضع إغراءاتٍ تجعل الناس يستبسلون للوصول إلى قائمة الجبهة التي تعني تحقيق عضوية المجلس. فبينما كان أثرياء المجتمع السوري يتطلعون بحسرة إلى ركوب سيّارات حديثة، لأنّ استيراد السيّارات الخاصة ممنوع، قرر حافظ إعطاء كلّ عضو مجلس شعب جديد رخصة استيراد سيّارة حديثة، معفيّة من الرسوم الجمركية، وكانت هذه الرخصة ثروة مفاجئة، أو "لقية"، فبمُجرّد ما ينتهي الاجتماع الأول للمجلس، وأثناء خروج العضو من مبنى مجلس الشعب (البرلمان سابقاً)، يأتيه أكثر من تاجر، يعرضون عليه شراء الورقة التي تتضمّن الرخصة، بمبلغ يصل أحياناً إلى مليون ليرة سورية، كانت تعني لهذا العضو المُفلس، القادم من إحدى القرى النائية، منزلاً، وسيّارة عتيقة، ومبلغاً فائضاً عن الحاجة يودع في بنك التوفير.
ومن الطريف، في هذه السيرة، أنّ الذين يمتلكون صلاحية وَضع الأسماء في قائمة الجبهة، وجدوا مِنْ حقّهم أخذ نسبة من الثروة (اللقية)، فأصبح الوصول إلى القائمة يتطلّب دفع بعض الرشا، لقادة في الحزب أو المخابرات، تطبيقاً للمثل المُستحدَث (اللي يأكل ويُطعم غيره، صحّتين على قلبه)، وعلى الرغم من الهيصة والزمبليطة، والأعراس، التي تقام على شرف الانتخابات (الحرّة، النزيهة)، كان الناس يَنفَضُّون عن العملية الانتخابية، لأنّها اتّخذت هيئة التعيين، وفي ذات مرّة، أراد المسؤولون أن يقنّنوا عملية إعطاء رُخَصِ استيراد سيّارات لأعضاءَ جدد، فقرّروا تمديد عضوية بعض الأعضاء الذين يوافقون على القوانين والمراسيم التي يريدها الرئيسُ وحاشيتُه، فكانوا يضعون أسماءهم في القائمة، وتستمرّ عضويتهم أربع سنوات أخرى.
ومع مرور سنين على هذه المهزلة، لم تعد أيٌّ من المحافظات السورية تخلو من مُرشّح (مسطول)، ينافس القائمة، ويوهمه بعضُ الظرفاء بأنّه ذو شعبية عظيمة، ويطبعون صوره ويعلّقونها على الجدران، ويرسم له الفتيةُ شاربَين معقوفَين، أو نصف لحية. ومن أجمل الطرائف أنّ مواطني إحدى المحافظات السورية، ذهلوا عندما عرفوا أنّ سائق "الميكروباص" الذي كان يعمل في أحد الخطوط الفرعية في محافظتهم، نزل اسمُه في قائمة الجبهة، وصار عضواً في مجلس الشعب، مُمثّلاً لأحد الأحزاب التقدّمية، وهناك دكتور جامعي مُتخرّج في الاتحاد السوفييتي، صار عمره 45 سنة، وهو عاطل، لأنّه كلّما تقدّم لوظيفة، وقُبِلَ فيها، يُفاجأ بأنّه "مضروب بالتقرير الأمني"، وفي إحدى الدورات البرلمانية، ذهب إلى الأمين العام في حزبه، وعرض عليه أن يقترح اسمه لقائمة الجبهة، فهذه العضوية لا تحتاج إلى موافقة أمنية أصلاً، وقد كان له ذلك، وفي مثل هذه الحالة تكون عضوية مجلس الشعب، مفيدةً جدّاً!
تحويل المؤسّسة التشريعية إلى مُنظّمة شعبية، أفرز عشرات من المشاهد الطريفة، ففي وقت من الأوقات، لم يبقَ هناك أيّ قرار يريده الرئيس إلا ويحصل على "الإجماع"، وعندما كان حافظ الأسد، أو بشّار، يلقي خطبة في المجلس، يستحيل أن يتمكّن من إتمام جملة من دون أن يقاطعها الأعضاءُ بالهتافات والأشعار، ناهيك عن الدبكات، التي تعقد لاستقباله عند مدخل المجلس.