دبلوماسية النزق أو نزق الدبلوماسية
وحيدًا، لم يحسب حسابه أحد، انسحب الوفد المصري، من اجتماع وزراء الخارجية العرب تحضيرًا للقمة العربية في الجزائر، احتجاجًا على ترؤس وزيرة خارجية الحكومة الليبية، نجلاء المنقوش، رئاسة الاجتماع، فيما استمرّ أعضاء ما عرف بتحالف أو محور "اعتدال" البحرين والإمارات والسعودية والأردن في حضور الاجتماع.
برّر المتحدّث باسم الخارجية المصرية انسحاب الوزير، سامح شكري، ومغادرته الاجتماع احتجاجًا على تولي مسؤولة ملف الخارجية في الحكومة الليبية التي يرأسها عبد الحميد الدبيبة، بأن هذه الحكومة منتهية ولايتها، ولا تمثل الدولة الليبية.
وحدها، رأت مصر أنّ وزيرة خارجية الحكومة الليبية غير مؤهلة لتمثيل بلدها في اجتماع عربي رفيع المستوى، بينما رأى كل العرب غير ذلك، ورحّبوا بالوزيرة الليبية، واجتمعوا تحت رئاستها، فيما بقي مشهد وزير خارجية مصر، وهو يغادر القاعة معبّرًا عن حالةٍ من النزق الدبلوماسي، أو دبلوماسية النزق، يذكّر بمشهد لا يزال عالقًا بالذاكرة العربية للوزير المصري وهو يصارع ميكروفون قناة الجزيرة الفضائية ويطرحه أرضًا، ثم يحصل على لقب "أسد الخارجية" من إعلام رسمي مصري أكثر نزقًا إلى حدود تقترب من الخلل الفكري.
مرّة أخرى، تُدار السياسة الخارجية المصرية بأسلوبٍ طفولي، يترك وراءه عشراتٍ من علامات الاستفهام والتعجّب، أو بالأحرى علامات التحسّر على دولةٍ كانت الرائدة في مشروع تأسيس جامعة الدول العربية. السؤال الأول هنا: هل انفرط عقد ما يسمّى محور اعتدال، صاحب الموقف الموّحد ضد كل ما بقي من آثار وملامح للربيع العربي؟
يسترعي الانتباه هنا أن مصر استضافت قادة الإمارات والبحرين والأردن والعراق قبل أسبوعين تقريبًا فيما عرفت بقمة العلمين، في الساحل الشمالي المصري، لتنسيق الجهود وتوحيد مواقف هذه الدول بشأن القضايا الإقليمية والدولية قبل الذهاب إلى القمة العربية في الجزائر.
الرئاسة المصرية، وهي تحتفل بتلك القمة التي رأسها السيسي، شدّدت على المواقف الموحدة والرؤى المشتركة، وهو ما انعكس على التناول الإعلامي الصاخب لهذا الاجتماع، بوصفه دليلًا جديدًا على الدور المصري الرائد عربيًا وإقليميًا، فتتوسّع صحف النظام في التحليل والإشادة بإنجاز جديد للرئاسة على صعيد العمل العربي المشترك، فتنشر "اليوم السابع" مثلًا ما وصفتها بأنها دراسةٌ صادرةٌ عما يسمّى المرصد المصري التابع للمركز المصري للفكر والدراسات عن دلالات استضافة مصر قمة العلمين، لتقول إنّ أهم دلالة "تتمثل في تحرّك مصر من منطلق تحمّل مسؤوليتها الإقليمية وإدراكها الواضح خطورة استمرار تمزّقات الجسد العربي على انهيار منظومة الأمن القومي الإقليمي، وما يستتبعه من فتح المجال أمام المشروعات غير الوطنية، الأمر الذي يتوجب معه تقريب وجهات النظر وتجاوز الخلافات البينية نحو بناء رؤية عربية مشتركة للتعاطي مع مشكلات وقضايا الإقليم".
لكن ما حدث في اجتماع الجزائر أسفر عن مشهد يقول باختصار إن مصر، وحدها، في ناحية، بينما الإقليم كله في ناحية ثانية، وإن الموقف المصري المبني على خصومة مع الحكومة الليبية، المعترف بها دوليًا وإقليميًا وعربيًا، لم يجتذب تأييدًا أو حتى تعاطفًا شكليًا من أحد، بما في ذلك الحلفاء الاستراتيجيون والرعاة والداعمون الدائمون للنظام المصري، وهم الثلاثي السعودي - الإماراتي - البحريني ومعهم الأردن.
هذا منعطف خطير في العلاقة بين القاهرة والعواصم التي احتضنت نظام 2013 في مصر، ووفّرت له الرعاية الشاملة، اقتصاديًا وسياسيًا، بل أعلن السيسي نفسه مرارًا بكل ثقة إنه "لن ترونا إلا معًا" حين اصطحب ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، لحضور عرض عسكري للقوات المسلحة المصرية بالكلية الحربية قبل ست سنوات.
كان هؤلاء الشركاء معًا في كل شيء، في الذهاب إلى حصار قطر، وفي السير على طريق التطبيع الشامل، وبالأخص في الأزمة الليبية، فماذا حدث لكي يحصل ما حصل في اجتماع الجزائر؟
لم يأخذ أحد بجدّية وصف الدبلوماسية المصرية حكومة الدبيبة بأنها غير ممثلة لليبيا بحجة أنّ ولايتها انتهت في يونيو/ حزيران 2022، بينما العالم كله يتعاطى معها باعتبارها الكيان السياسي الوحيد الممثل للدولة الليبية، حتى يتسنّى إجراء الانتخابات العامة بحسب اتفاق جنيف الذي توصل إليه المجتمع الدولي بشأن أزمة الصراع السياسي في ليبيا، وهو الاتفاق الذي تضمّن أن تنتهي ولاية هذه الحكومة بعد إجراء الانتخابات.
الأسوأ في ذلك كله هذه الركاكة في اللغة الدبلوماسية المصرية، وظهورها على هذه الحالة من العزلة في التحضير لقمة عربية مهمة.