دحر الأعداء افتراضياً

29 أكتوبر 2024

(ضياء العزاوي)

+ الخط -

انحدر على مدى السنوات الماضية منسوب حريّة التعبير في الفضاء العام داخل العراق بوتيرة متزايدة، ولعلّ أكثر المنعطفات أهمّيةً جسّدتها لحظتان. الأولى غزو تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، الموصل، والمدن المختلفة في شمال غربي العراق، وما ترتّب عليه من تعبئةٍ لمواجهة هذا التنظيم الإرهابي، فساد مناخ لإعادة تأهيل المليشيات التي كانت منبوذة وتُصنَّف جماعاتٍ خارجةً على القانون. تلاها صعود الواجهات السياسية التي تمثّل المليشيات إلى صدارة المشهد السياسي في العراق، فصارت هذه التنظيمات خطوطاً حمراءَ لا تمسّ، وصارت تملك الجرأةَ على تهديد وتصفية من يعارضها من دون أيّ خوف من محاسبة قانونية. حتى أنها لم تتورّع مثلاً عن اغتيال أستاذ جامعي وكاتب ومفكّر مثل علاء مشذوب، أمام بيته المجاور لضريح الإمام الحُسَين، لأنه عبّر عن رأي انتقادي ضدّ إيران في صفحته بـ"فيبسوك".
اللحظة الثانية هي اليوم التالي لانتهاء الحراك الاحتجاجي في أكتوبر/ تشرين الأول 2019. حين عمدت السلطة، التي تتحكّم بها الواجهات السياسية للمليشيات، إلى ملاحقة المتظاهرين والناشطين، من الذين أفلتوا من عمليات التصفية خلال التظاهرات، فقتل من قتل وتشرّد آخرون، ولاذ كثيرون بالصمت، أو قفزوا من أجل الشعور بالأمان إلى مركب هذه الجماعات المسلّحة، وصاروا تحت حمايتها.
خلال تلك السنوات تزايدت أعداد الصامتين، وترك كثيرون من الناشطين مواقعَ التواصل الاجتماعي لتصول وتجول فيها الجيوش الإلكترونية للجماعات المسلّحة، وما عاد الناظر إلى هذه المواقع قادراً على أخذ صورة دقيقة وحقيقية عمّا يمكن أن يُسمَّى "الرأي العام العراقي".
ومنذ اندلاع الأحداث في الأراضي الفلسطينية قبل عام، وتتابع المجازر الإسرائيلية، استثمر مدوّنو الجماعات المسلّحة العراقية هذه القضية لتكون معياراً جديداً لتحديد "الوطنيين والشرفاء" وتمييزهم من أولئك "الخونة والعملاء"، وكأنّ مَن في الداخل قادر فعلاً على طرح رأي مخالف لآرائهم. ولا علاقة جذرية لهذا الخطاب الذي تمثّله هذه الجماعات والأحزاب بأصل القضية الفلسطينية والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وإنّما بما "تتصوّره هي" عن هذه القضية، ومدى امتثال الآخرين لهذا التصوّر أو ابتعاده عنه، فحتى لو تبنّى الآخرُ الخطوط العريضة ذاتها للخطاب المؤيّد لحقوق الشعب الفلسطيني، فهو (مع ذلك) من الممكن أن يكون خائناً وعميلاً، لأنّ تصوّراته لا تتطابق حرفياً مع تصوّر هذه الجماعات.
يوزّع مدوّنو هذه الجماعات بإسراف وصف "صهيوني" على كلّ من يخالفهم، حتى لو لم يكن هناك مدوّن أو مثقّف أو إعلامي واحد ينطبق عليه هذا الوصف بشكل حقيقي، فالحقيقة هنا غير مهمّة، المهم هو استثمار الصراع الإقليمي الدائر من أجل التعبئة السياسية وفرض المزيد من السيطرة في الفضاء الاجتماعي العام في العراق. حتى يمكن القول إن هناك معركةً تديرها هذه الجماعات ومدوّنوها في فضاء تجريدي، لا علاقة له بالدم والضحايا ودخان الانفجارات والصواريخ والمآسي الإنسانية المستمرّة على الأرض في فلسطين ولبنان. فهذا الدم المسفوح هو الأحقّ بالحماسة والانفعال من تراشق الاتهامات والتخوين داخل فقاعة مواقع التواصل الاجتماعي.
الحرّية النسبية ما قبل يونيو/ حزيران 2014، في نقد الجماعات المسلّحة ووصفها بأنها تمارس نشاطاً خارجاً على القانون صار اليوم أشبه بالخيال، فأي منتقد لعمل هذه الجماعات اليوم يتهم بأنه "ضدّ المقاومة"، وتتساقط على رأسه التهم الشنيعة كلّها، التي قد تودي إلى التهلكة. لهذا، وكما قلنا في البداية، فإن كثيرين آثروا الصمت والانزواء، فصارت مهمّة مدوّني الجماعات المسلّحة أصعب، وهنا انتقلوا إلى مستوىً أعمق من البحث عن "الصهاينة"، فدخلنا في مرحلة التفتيش في الضمائر، وتفسير الصمت بأنه معاد. كما أنهم يتجوّلون في الحسابات المختلفة للصحافيين والكتّاب والمدونيين للبحث عن إشارة ما عن الامتعاض أو عدم الراحة، لإعادة إنتاجها في آلة الهجوم المضادّ على الصهاينة الافتراضيين، وليس أولئك الذين على الأرض، الذين يفترض أن تتوجّه نحوهم الجهود والطاقات كلّها لدحرهم هناك، في خطوط التماس مع العدو، لا في مواقع التواصل الاجتماعي.