درنة المنكوبة والدولة الغائبة
درنة مدينة ليبية جبلية، تقع على ساحل البحر المتوسط في شمال شرق البلاد، يحدّها من الشمال البحر الأبيض المتوسط، ومن الجنوب سلسلة من تلال الجبل الأخضر. يشطرها مجرى وادي درنة إلى شطرين، وهو أحد الأودية الكبيرة المعروفة ليس في درنة فحسب، بل في ليبيا كلها. كانت المدينة، كما مدن أخرى في الشرق الليبي، مع موعد رهيب، لم يكن في حسبان سكانها، ففي فجر يوم الأحد 10 سبتمبر/ أيلول تعرّضت لإعصار "دانيال" المتوسّطي، الذي جرف معه الأرض والأرواح، إعصار لم تعرفه مدن البلاد من قبل، ولتكون درنة من أكثر المناطق تضرّراً، وذلك بسبب وجود الشقّ الصخري، أو ما يعرف بوادي درنة الذي تمرّ فيه المياه بشكل كثيف، ولتكون الصور والمقاطع المرئية بعد هذه الواقعة أبلغ من الكلام، وشاهدا على غياب مقوّمات الدولة فيها.
حدث عظيم، اهتزّت له القلوب قبل الأبدان، سيول جارفة، وأودية كاسحة، وأرض تبلع، وبحر هائج يموج، والإنسان يقف أمام هذه الأحداث حائرا حزينا، فالضحايا بالآلاف، والأرقام التقديرية تزداد بين فينة وأخرى، وذلك كله في معزل عن وجود أرقام حقيقة لهذه الكارثة، أو حتى معلومات واضحة وجلية، فالكارثة أكبر من قدرة دولةٍ قائمةٍ بمؤسّساتها، فما بالُك بدولةٍ مزّقتها النزاعات، والاختلافات السياسية، والانقسام التشريعي والتنفيذي فيها، الأمر الذي جعل من حجم الكارثة أشد وقْعاً وألماً. ويحاول المواطن البسيط أن يداوي الجراح، ويواسي أهل درنة وغيرها في مدن الشرق الليبي بمقوّماتٍ لا ترتقي إلى هذا الحدث العظيم، ولكن ليظهر صورة ومشاهد إنسانية، بل وحتى سياسية من زاوية أخرى، ومن منظورٍ مغاير لما ينظر به الساسة في البلاد، وكأنه بذلك يقول: ما مزّقته وفرّقته السياسة جمعته الإنسانية والمودّة بين أبناء الوطن الواحد.
حصيلة مروّعة والأرقام تزداد، بل ما يصل إلى مسامعنا أكثر وأكبر مما يُعرض في وسائل الإعلام، ناهيك عن الرسمية منها في أكبر كارثةٍ من نوعها تشهدها ليبيا ربما، أو في سنوات وعقود قريبة على أقلّ تقدير، عائلات كاملة أصبحت أثراً بعد عين، ومبانٍ قائمة لم يُر لها أثر، وشوارع في المدينة كأنها تغيّرت وانتزعت، ولم يبق لها أثرٌ يُذكر، في مشهدٍ لم يتصوّره عقل إنسان عاش في المدينة أو مرّ منها وفيها... هذه هي الحقيقة وهذا هو الواقع في المدينة، وإن لم تصفَ شمسُها وتتضح معالمها بعد.
تقودُنا الكارثة في درنة إلى الحاجة الملحّة لأن تكون لنا دولة، لا شبهها، ومؤسّسات فاعلة حقيقية لا مؤسّسات هلامية تبنى على الأشخاص، بدل أن تُبنى على القوانين
غالباً ما تقف الدول المستقرّة سياسيا عاجزة أمام مثل هذه الأحداث، وتعجز قدرُتها وتُشلّ حركتها، فما بالك بدولةٍ أنهكتها الحروب، وأتى الانقسام السياسي على أركان مؤسّساتها. وفي المقابل، لا يمكن أن يُستساغ عقلا أن تمرّ الساعات تلو الأخرى بعد الكارثة من دون فعلٍ يُذكر. وأقصد بالفعل هنا "الفعل الحقيقي"، وليس التصريح الإعلامي، أو الاقتناص السياسي، فذلك شأنٌ آخر يمكن أن يكون مقبولا في موضعٍ آخر، أو شأنٍ آخر، لا في هذا المصاب الجلل. وبالتالي، تقودُنا هذه الكارثة إلى الحاجة الملحّة لأن تكون لنا دولة، لا شبهها، ومؤسّسات فاعلة حقيقية لا مؤسّسات هلامية تبنى على الأشخاص، بدل أن تُبنى على القوانين.
كارثة مدينة درنة الليبية حقيقة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وخطب جلل، لا يحيط القلم بأحداثه، ولا تعبّر مفردات الكلمات بوصفه، فالصور أبلغ من ذلك كله. ولكن حسبنا في ذلك بأن عِظم الجزاء مع عِظم البلاء، فنسأل الله اللّطف بأهل درنة، وكل من وقع عليهم الضرر في شرق البلاد، وأن يجعل للأحياء مخرجا ورُشداً، ونسألُه، عزّ وجل، أن يتقبّل المُتوفين في الشهداء، وأن يكشفَ عن هذه البلاد البلاء؛ إنه سبحانه ذو مَنٍّ وكرمٍ وآلاءٍ.