دعهم يسبونا ويشتمونا!
قبل حوالى خمس عشرة سنة، أصبح عندي جهاز كومبيوتر، وتعلمتُ الدخولَ إلى عالم الإنترنت، والتجولَ في عالم المواقع الإلكترونية... ووقتها أحسستُ؛ بل أيقنتُ أن الجدران السميكة التي رَفَعَتْها الأنظمةُ العربية، بشقيها المناضل والرجعي، أمامَ شعوبها قد بدأت تتصدع، وتؤول إلى السقوط، ومن جملة تلك الجدران جدارُنا الكتيم، نحن السوريين.
وأصبحتُ، بعد هذا، أعيش حياة جديدة، قوامُها "التبحير" في شاشة الكومبيوتر، مثلما كان فتاحو الفال يُبَحِّرُون في الصينية المملوءة بالرمل، من أجل أن يوهموك بأنهم يرون ما يراه الجان، ويعجزُ عن رؤيته البشر! فكنتُ أقرأُ، وأكتبُ، وأنشرُ، وأعلقُ، وأردُّ على التعليقات، وأنا في غاية الاندماج مع الذات، والاستمتاع.
ولكنني اكتشفتُ؛ بعد زمن ليس طويلاً، أن هذا العالم الافتراضي الممتع، هو، في الوقت نفسه، عالم قليلُ الحياء، وَقِح. فصحيحٌ أننا تحرّرنا، بالإنترنت، من سطوة رجال المخابرات الذين يتخذون من دوائر البريد مقراتٍ لهم، ويفتحون رسائلنا، ويعبثون بها على هواهم.. وأن كتاباتنا ما عادت تمر على مديرية رقابة الصحف والمطبوعات التي تتبع وزارة الإعلام، لتوضع تحت مجهر اللوائح والممنوعات والثوابت القومية والنضالية الكاذبة... وأننا أصبحنا قادرين أن نؤلف، وننضدد، ونصحح، ثم نضغط على زر (أَرْسِلْ) لنرى كتابتنا قد أصبحت منشورة أمامنا؛... إلا أن هذه الحرية الجديدة المكتسبة قد حولت قسماً من الناس إلى صيادي أخطاء، ومفتعلي مشاكل، وقادرين أن يتطاولوا على تاريخ مَنْ يشاؤون من الناس، فتراهم يسبُّون فلاناً، ويشتمون علاناً، ويتهمون زيداً باختلاس، وعَمْرَاً بفساد، وعُبَيْداً بكفر أو دعارة، وهم ليسوا، في هذا كله، بحاجة إلى أدلةٍ أو براهين، لأن معظمهم يكتبون بأسماء مستعارة، أو يقيمون في دول بعيدة لا يطاولها قانونٌ، أو سلطةٌ، أو إمكانيةٌ للعتاب في بلد المنشأ. وقد خرجتُ عن طوري، ذات مرة، حينما شتمني أحدُ الناشطين، مستخدماً أقذع الألفاظ، فرددتُ له الصاع صاعين، ولعنت سنسفيل أجداده.. وإذا بصديقي الأديب غازي أبو عقل (عم أبو صبحي) يقول لي: ما بك؟ لماذا ترد على الرجل بهذه الفجاجة؟
قلت: ألم ترَ أنه يسبني؟ هل ترضى أن يسبك أنت؟
فقال لي: أي نعم أرضى. يا أخي دعهم يسبونا. يعني أنت تريد حرية معقمة، مهذبة، طالعة لتوها من تحت يدي رقيب الصحف الأزلي؟
فيما بعد.. أَحَسَّتِ الأنظمةُ الديكتاتورية، وفي مقدمتها نظام حافظ الأسد، أن ظَهرها قد انكشف، وأن هذه الحرية الصحفية الافتراضية العظيمة سوف تُفقدها هيبتَها، وقد تُزَعْزِعُ استقرارَها، فسارعت إلى تنفيذ سلسلة من الإجراءات، بقصد استعادة زمام المبادرة.. فقد أخذت تشيع بين الناس أنها قادرة على مراقبة المواقع الإلكترونية، وأنها تعرف كل شيء عن إداراتها، والناشطين فيها، وأن بإمكانها أن تحاسب على أقل خطأ يرتكبه المواطن، حتى ولو كان يقتصر على وضع (لايك) على منشورٍ تفوح منه رائحة معارضة للنظام.. وبدأت تستدعي هؤلاء الناشطين، وتمارس عليهم التهديد والوعيد والضغوط والهيمنة.. حتى وصل الأمر بأحد ضباط الأمن السياسي في مدينة إدلب أن استدعى مديرَ موقع إلكتروني محلي، ولامَهُ لأنه نشر دليلَ هاتف المدينة على الموقع، قائلاً له: أترضاها أن يُعْلَنَ رقمُ هاتفك على الناس، ويراه كل أهل المدينة؟
حرّرت الثورةُ السورية العظيمة الناسَ من عقدة الخوف، ومن سطوة المخابرات، ومن هيمنة المثقفين النخبويين، وأصبحوا يصولون ويجولون على الإنترنت، لم يتركوا ديكتاتوراً إلا وفضحوه، وسخفوه، وهَزَّأوه.. أما المتسكعون وقليلو الحياء فقد حولوا صفحات الإنترنت إلى معرضٍ يفتح أبوابه للزوار على مدى الأربع والعشرين ساعة، للقذف، والتشهير، والسباب، وكَيْل الاتهامات بلا أدلة، والتخوين.. والمشكلة أننا مضطرون للسكوت عنهم، فلو خرجنا عن أطوارنا واصطدمنا بهم، سيقول لنا عمو أبو صبحي، أو غيره: هذا ثمن الحرية.. أفكنتم تريدون حرية بلا ثمن؟