دعونا ننتقد الشعراء الكبار
يبدو السجال مع التيارات الشعبية السائدة في الأدب، والفن، والسياسة، ضرباً من الحماقة، لأن هذه التيارات ما تزال قوية، وفي الوقت نفسه، عنيفة، شرسة. مثلاً؛ إذا أنت انتقدتَ قصيدة سياسية قومية قيلت قبل نصف قرن أو أكثر، لن تعدمَ مَن يتصدّى لك، ويحاول التشكيك في موقفك، إذا لم يخوّنك، وفي أحسن الأحوال يسألك، باستخفاف: مَن أنتَ حتى تعترض على بعض أشعار المتنبّي، أو تستهجن سبابَ المرحوم أبي عادل مظفر النواب الحكامَ العرب، أو تتناول شعر نزار قباني العظيم بسلبية؟ تجيبه: أنا لستُ ضد هؤلاء، بل أعرف قيمتهم وأهميتهم، ولكنهم، في المآل الأخير، بشر، ويحقّ لي أن أنتقد بعض أشعارهم، فأصف قول المتنبّي "الخيل والليل والبيداء تعرفني" بأنه نوع من "المَنْفَخَة"، وأرى في هجائه العبيدَ تكبراً إنسانياً غير لائق بشاعر كبير مثله، وأتمنّى لو أنه لم يكتب قصيدة "العيد" أصلاً، وأرى أن معظم أبياتها، ولا سيما "مَن عَلَّمَ الأسودَ المخصيَّ مكرمةً/ أقومُه البيضُ أم آباؤه الصِّيدُ؟" ينطوي على عنصرية كئيبة، على الرغم من أن مصطلح "العنصرية" لم يكن معروفاً في زمانه.
بهذا المعنى؛ لا أعترض على قول سعيد عقل، حينما سُئل عن المتنبّي، إن "لَهُ أبياتاً". وأستاء، في الوقت نفسه، من وصف سعيد أهلَ الشام بقوله: أمويونَ فإن ضقتِ بهم/ ألحقوا الدنيا ببستان هشام.. مفكّراً أن الأمويين أقاموا دولتهم في الشام، ولكن الشام حاضرة قبل الأمويين وبعدهم، وأن شاعراً بحجم سعيد لا يجوز أن يفرح بإلحاق بلاد الناس ببساتين هشام! ومعلومٌ أن سعيد عقل رجل صريح، ومباشر، يقول إنه لا يعترض على تسمية أحمد شوقي أميراً للشعراء، ويرى أن قصيدته عن زحلة جيّدة، ولكنّ فيها بيتين أجمل من الأبيات التي غنّاها عبد الوهاب، هما: إنْ تُنكري يا زحلَ شعري فإنني/ أنكرتُ كلَّ قصيدة إلاكِ.. أنتِ الخيالُ، بديعُهُ وغريبُهُ/ اللهُ صاغكِ والزمانُ رواكِ.
المشكلة أن في شعر أحمد شوقي مطبّات كثيرة، فهل يجوز أن نقارن "مُضناك جفاهُ مرقدهُ"، أو "سلوا كؤوسَ الطلا" بالقصيدة التي يمدح فيها مصطفى كمال أتاتورك وقوله "الله أكبرُ ما في الفتح من عجبِ/ يا خالدَ التُّرْكِ جدّد خالدَ العربِ" .. فهذا المديح، بتقديري، شبيهٌ بشعر صابر فلحوط في مديح حزب البعث، وقوله: ينطحُ الغيمَ شموخي فَعَلى/ جبهةِ الشمسِ بقايا مضربي ... أنا بعثٌ وليمتْ أعداؤه/ عربي عربي عربي... وهذا يقودنا إلى فكرة لا بد أنها صائبة؛ أن الشعراء والفنانين الكبار، يهبطون بمستواهم حينما يقتحمون عالم السياسة، فأين روائع أم كلثوم "رقّ الحبيب"، و"الأطلال"، و"حبيبي يسعد أوقاته"، من "أصبح عندي الآن بندقية"؟ ونزار قباني الذي ملأ الدنيا أشعاراً غزلية رقيقة، القائلُ "أيتها الأنثى التي في صوتها تمتزج الفضةُ بالنبيذِ/ بالأمطارْ/ ومن مرايا ركبتيها يطلعُ النهارْ/ ويستعد العمر للإبحارْ"، يكتب قصيدة "المهرولون" ينتقد فيها اتفاقية أوسلو، فيتصدّى له نجيب محفوظ، بلغته المحترمة الهادئة، قائلاً إنها قصيدة قوية فنياً، ولكنها تدافع عن موقفٍ ضعيف، وأن نزار ينتقد الصلح، ولا يقدّم بديلاً عنه.. ويذهب نزار في ردّه على محفوظ إلى أنه: رقيق كنسمة الصيف، وحريريٌّ في صياغة كلماته، لا يسمح لنفسه أن يجرح حمامة، ولا أن يدوس على نملة، أو يغامر، أو يسافر، أو يغادر زاويته التاريخية في "الحسين"، ولا يُعرف عنه أنه تشاجر ذات يوم مع أحد، أو وقف في وجه حاكم، أو أمير، أو صاحب سلطة، ودائماً يلبس قفّازات الحرير في خطابه الاجتماعي والسياسي، ولديه بدلتا سفاري، واحد ينام فيها، وواحدة يستحمّ فيها!
أخيراً؛ أعتقد أن هذا التنقيب في عالم الكبار يضعنا أمام تمارين ذهنية، تجعلنا نتريّث في كيل المديح (أو الهجاء) لأديبٍ ما، من دون تفكير.