"دفاتر الورّاق" .. فقدان المعنى
يُستعار العنوان أعلاه من التقريظ الذي أعلنه الشاعر شوقي بزيع، رئيس لجنة تحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر)، لرواية الأردني جلال برجس الرابعة "دفاتر الورّاق" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2020)، الفائزة بالجائزة في دورتها الرابعة عشرة، إذ، بعد إشارته، في بيان إعلان هذا الفوز، الثلاثاء الماضي، إلى "حبكةٍ محكمةٍ ومشوّقة" في هذه الرواية، وإلى "لغتها العالية"، قال إن المؤلف يقدّم "أشدّ البورتريهات قتامةً عن عالم التشرّد والفقر وفقدان المعنى واقتلاع الأمل من جذوره، ..". ولسائلٍ أن يسأل عما إذا كان صنيعٌ كهذا تفعله رواية يجعلها، من بين 121 رواية من 11 بلدا عربيا، تُحرز هذه الجائزة الوازنة. والإجابة المرجّحة ستتصل، بداهةً، بمزاج لجنة التحكيم وذائقات أعضائها، وهذا يعني أن العالم الذي بناه جلال برجس في روايته، بالسرد الذي بسطه فيها، وتحقق فيه إمتاعٌ، وانجذابٌ إليه، جعل المحكّمين المختارين يرون "دفاتر الورّاق" تفوّقت، فاستحقت التكريم بالجائزة، وفي البال أن رواية سابقة للكاتب وصلت إلى القائمة الطويلة، وثالثة قبلهما نالت إحدى جوائز كتارا للرواية العربية.. وبذلك، يلقى جهد جلال برجس في مشهد الرواية العربية الراهن تقديرا طيبا، والمؤمل أن يكترث به أهل النقد، فيجتهدوا في تقديم إضاءاتٍ تحليليةٍ عنه، وإن حظيت "دفاتر الورّاق" بكتاباتٍ تقصّت جيدا فيها.
نعم، هو "فقدان المعنى" ظاهرٌ قدّام قارئ "دفاتر الوراق". المعنى هو استشعار الفرد العربي جدوى وجوده، إحساسه بفاعليته، شعوره بقيمة له في محيطه ومجتمعه، قناعته بأن له سهما يرميه في الدنيا. ولا أحد في هذه الرواية، وفي مقدمتهم شخصيتها المركزية، يتوفّر على هذا المعنى. كلهم فاقدون له. لا تُنبئك سبعة فصول في 360 صفحة بشيءٍ من هذا، أو على الأصح لا تقع، وأنت تطوف في جوّانيات أفراد الحكايات التي يتناوب السرد عنها، وتتعدّد وتتشابك، وتلتقي مقاطع فيها وتفترق، على ما يوحي بأن أحدا منهم لا تقيم فيه هزيمة من نوع ما. وبذلك يصير جائزا أن يرى من يرى أن "دفاتر الورّاق" موصولةٌ بالانشغال الكثير في المدوّنة الروائية العربية بخسارات الفرد العربي، بما يتوطّن فيه من قلق الأسئلة عن أسباب شعوره بالهامشية والنبذ. أخذ هذا الانشغال تنويعاتٍ عديدة، فذهبت أعمالٌ روائية، منذ الستينيات مثلا، إلى مسؤولية السلطة، السياسية وغيرها، في هذا. وارتأت أخرى أن شروطا اجتماعيةً تبعث على هذا الحال. وغالبا ما كانت شخصية المثقف هي الأكثر قلقا في متون الرواية العربية، وكان فادحا حضورُها، يقيم فيها الشعور بالعبثية وبالخسران وباللاجدوى، وكأن "انتحارا للمعنى" (بتعبيرٍ لمحمود درويش في مسألةٍ أخرى) يسكنه. ولمّا كان إبراهيم الورّاق، البطل المركزي في الرواية الحائزة جائزة بوكر مثقفا، قارئ روايات، يملك كشكا لبيع الكتب في وسط عمّان تهدمه السلطة المحلية ليُقام في مطرحه متجر، ويتفاقم فيه الإحساس الباهظ بـ"فقدان المعنى"، فإن سؤالا قويا سنجده ماثلا قدّامنا، بشأن الأسباب البعيدة لهذا الحضور المديد لكل هذه الهزائم في الذات العربية، سيما في المثقف العربي، وكل هذه الخسارات فيها، في الرواية العربية، منذ أزيد من ستة عقود.
إبراهيم الورّاق، في صنيع جلال برجس هنا، هو "ابن الخسارات المتتالية"، كما يحدّث نفسه مرّة، ويتردّد على طبيب نفسي، يخاف أن يصير قاتلا، فجنينٌ في بطنه، بحجم الوحش، يحثّه على القتل. إنه يذهب إلى الشرطة ليخبرهم بهذا، ويحذّرهم من حاله، في واحدة من مفارقات غزيرة في الرواية. يتركه يتحدّث، بضميره المتكلم، كما آخرين من شخصيات الرواية، ليتيح هذا الخيار في السرد لكل منها أن تنفضح وتفضَح، أن تنكشف وتكشف. تقول ليلى، ابنة الملجأ، إنها أيضا ستقتل والديها لو تعرف من هما. وبالتوازي، كأن ثمّة فعل قتل يصنعه إبراهيم بنفسه، عندما يحاول الانتحار، في العقبة التي تبدو، بما توحي به لغة الراوي، على تضادّ مع عمّان، المدينة العالية الضجيج، والتي يجد نفسه فيها على الرصيف مثل نقطةٍ في زحام، فيما العقبة التي تلتصق بنهاية البحر، وامتدادُها فسيح، تدحر مصابيح الشوارع والبيوت فيها العتمة، والسماء فيها صافية. لا ينتحر إبراهيم الورّاق، ولا يفعل ما صنعه أبوه الذي جعله انعزاليا، وإنما يقرأ ويكتب، ويتعرّف على دفاتر جدّه، الشموسي، عن أيام حرب فلسطين، وأحداث قحط وجوع .. وهزيمةٍ مورثة إلى أبناء وأحفاد، وربما أيضا إلى قراء روايةٍ بهيجةٍ في اعتنائها بفقدان المعنى .. مبروك جلال برجس.