دماغ هادي مطر
ما تزال المعلومات، في وكالات الأنباء ووسائط الإعلام، والمنقولة من مصادر موثوقة، شحيحةً، عن اللبناني، الأميركي الولادة واليفاعة والجنسية، هادي مطر (24 عاما)، والذي نفذ اعتداءه، في قاعة محاضراتٍ في نيويورك، بالسكّين على الكاتب الهندي، البريطاني الجنسية، المقيم في نيويورك منذ 1999، المواطن الأميركي منذ 2016، سلمان رشدي (75 عاما). وعلى شحّها، فإنها تُسعف، إلى حد ما، في رسم صورةٍ تقريبيةٍ لدماغ هذا الشاب الذي جيء على اسمٍ آخر له، حسن مغنية، وقد وجدوا معه رخصة سياقة مزوّرة، عند القبض عليه فور ضربه رشدي بطعناتٍ في عنقه. أول الفجوات في المعلومات المستوى التعليمي لهذا الشاب المولود في كاليفورنيا لأبوين مهاجريْن من قريتهما يارون في جنوب لبنان، ولكنّ ما أفيد عمّا ينشره في صفحته في "فيسبوك" يؤشّر إلى بعض ثقافته، فهو متيّم بزعيم الثورة الإيرانية الخميني، صاحب الفتوى الشهيرة بقتل رشدي في 1989، بعد نشر الأخير روايته "آيات شيطانية". يضع صور الخميني والمرشد خامنئي والقتيل الإيراني، قاسم سليماني، وأمين عام حزب الله حسن نصرالله. والبادي أنه صحيحٌ قول مسؤول محليٍّ على علمٍ بالتحقيق مع هادي مطر، لشبكة "إن بي سي نيوز"، إن الأخير متعاطفٌ مع "التطرّف الشيعي" وأنشطة الحرس الثوري الإيراني.
ومما يغري بدرسٍ معمّق، سوسيولوجي وتربوي، في حالة هذا الشاب، أنه فيما يقيم في نيوجيرسي، على مسافةٍ قليلة من عاصمة العالم نيويورك، كان مقدّرا أو متوقّعا (أو مأمولا؟) أن يُصاب بأنفاسٍ من الحداثة والمدنيّة (حتى لا نقول العولمة والأمركة) في الأرض التي يقيم عليها، ولكن ما يتبدّى فيه أن ثقافةً قرويةً لم يحتكّ بها، ولم يعايشها تماما، تتوطّن في أخيلته ومداركه. ولمّا كانت غائبةً المعلومات عن والديه (قرأت أنهما منفصلان) وعملهما وتأهيلهما العلمي، ففي الوُسع أن يُرجَّح أن لهما بعض التأثير عليه، إنْ كانا يقيمان على محافظةٍ تقليديةٍ قَدما بها إبّان هجرتهما، قبل أكثر من عقدين، من قريتهما الجنوب لبنانية (الشيعية). غير أن في الوُسع القول إن لوسائط السوشيال ميديا التي شاءت أقدارٌ وقناعاتٌ ومصادفاتٌ ومرجعياتٌ حواليه أن يختار فيها ما يسلّحه بمساحاتٍ من المعرفة عن "الشيطان الأكبر"، الولايات المتحدة التي يقيم فيها ويحمل جنسيّتها، والتي تدعم إسرائيل المعتدية على اللبنانيين والفلسطينيين، وتعادي الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
ليس موضعا للتعجّب أن إعلان سلمان رشدي (وكل المتورّطين بنشر كتابه والعارفين بمحتواه) محكوما عليهم بالموت، "وعلى كل المسلمين تنفيذ الحكم أينما وجدوا"، جاء في فتوى الخميني قبل تسع سنواتٍ من ولادة هادي مطر في أميركا، فالثقافة التي تقيم في دماغ هذا الشاب تتعامل مع خُطب الخميني وفتاويه وتعاليمه بمنطق صلاحيّتها في كل زمان ومكان، وطالما أن أحدا لم يُبادر، في كل هذه السنوات، إلى قتل سلمان رشدي (قتل أحدهم المترجم الياباني لرواية "آيات شيطانية" طعنا في 1991)، فإن هذه المهمة ما تزال في عُرف الخمينيين قائمة ومعلّقة، وهذا لا يحتاج إلى ترتيب من أي جهةٍ إيرانية. ومعلومٌ أن الحكومات في طهران لم تول مسـألة رشدي، بعد وفاة الخميني في 1989 (بعد أسابيع من فتواه) أولوية، ولا تجد السلطة الراهنة نفسَها معنيةً بفعلة هادي مطر، وإنْ وصفته صحيفة كيهان، شبه الرسمية، بـ"البطل اللبناني". في وُسع ميديا المواقع الإلكترونية أن تزوّده بمعلوماتٍ يريدها، بالكيفية التي يريدها، عن "آياتٍ شيطانية"، من دون حاجته لقراءتها (الرواية)، وعن كاتبها الذي رآه الإمام عدوا للإسلام.
ليس كافيا اجتهادٌ مرتجلٌ هنا عن هادي مطر لقراءة صورةٍ مقطعيةٍ لدماغه، وما في تضاعيف هذا الدماغ من "ثقافةٍ" غير متصالحةٍ مع أيٍّ من قيم الحياة الأميركية ونزوعاتها الليبرالية، وما فيها من علوّ لمكانة حرية الرأي والتعبير، ومرتدّة إلى أفكارٍ في ضفةٍ أخرى مضادّة، منشدّةٍ إلى عصبٍ مذهبيٍّ على الأرجح، أكثر من اتصالها بمنزعٍ إسلاميٍّ محض. .. إن كنّا طالعنا عن شبّان مسلمين في بيئاتٍ أوروبيةٍ (وأميركية) من أسر مهاجرةٍ من مغارب العرب ومشارقهم، ومن بلدان إسلامية، توطّن فيهم التطرّف الذي يرى "جهادا" (سنّيا) واجبا في أرض الكفار الذين يستهدفون المسلمين في أفغانستان واليمن والعراق و..، فإنها ربما المرّة الأولى التي نُصادف فيها حالة تطرّف من منبتٍ شيعيٍّ، خمينيةٍ محضة، أمكن فيها لعشرينيٍّ لبنانيّ الأرومة أن يشتري تذكرةً، في نيويورك، لا للاستماع إلى محاضرةٍ يؤدّيها سلمان رشدي، وإنما لذبحه بسكّين.