ديمقراطية محور المقاومة

21 يونيو 2023
+ الخط -

ما زالت الديمقراطية، في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، تثير جدلاً ونقاشاً كما كانت في القرن الماضي، عندما بدأ يتشكّل اتفاقٌ أو إجماع حولها حتى بين من يرفضون "النموذج الغربي" من خلال ادّعاء صلة ما، أو صيغةٍ لا على التعيين تربطهم بها، بما في ذلك النظم الشمولية، سواء كانت علمانية، كالصين وروسيا، أو ثيوقراطية كإيران. في عالمنا العربي أيضاً، حيث ما زال الاستبداد صيغة الحكم الأكثر شيوعاً، تزعم أكثر النظم الحاكمة أنها تمارس السلطة بتفويض وإرادة شعبيين، وقد اعتدنا في العقود الماضية على "هندسة" الانتخابات في الجمهوريات العربية بطريقةٍ تؤدّي حتماً إلى فوز مرشّح السلطة بأغلبيةٍ ساحقةٍ في عمليةٍ صارت تجري أخيراً وفق صيغة تعدّدية، حيث يتم اختيار مرشّحين ضعفاء، يلعبون دور المحلّل للعملية الانتخابية، بدل الاستمرار في صيغة الاستفتاءات التي كانت تجري عادة حول شخص الحاكم، وتنتهي بفوزه بنسبٍ تقترب من مائة بالمائة. لا تكلف النظم الملكية نفسها عناء فعل أيٍّ من هذا بعدم ادّعائها تمثيل الإرادة الشعبية، فهي لا تحتاجها بوجود "شرعياتٍ" أخرى (دينية، تاريخية... إلخ) تعزّز من سطوتها نظم اقتصاد ريعية.
في العقدين الماضيين، تحديداً بعد الغزو الأميركي للعراق، ظهرت طريقة جديدة لممارسة "الديمقراطية" في منطقتنا العربية، تستلهم بعض قواعد المدرسة الإيرانية، إذ تتدخّل المليشيات لتحديد نتائج الانتخابات، بأعقاب البنادق، عندما لا تفيد "فلاتر" السلطة في استبعاد غير المرغوب بهم (هكذا فعلت مليشيا الباسيج والحرس الثوري في انتخابات 2009 الإيرانية). عربياً، بدأ الأمر في لبنان مطلع التسعينيات عندما قرّر تنظيم حزب الله أن يكفّ عن التعفّف عن مغانم السلطة وتدنيس نفسه بمتاعها، وخوض غمار انتخابات 1992. ولكونه الوحيد الذي ظلّ يمتلك السلاح من بين مليشيات الحرب الأهلية اللبنانية، بزعم مقاومة العدو، صار هو عملياً الذي يقرّر السياسات العامة للدولة، بغض النظر عن نتيجة أي انتخابات. بمرور الوقت ومع استمراء السلطة، لم يعد الحزب يكتفي بذلك، بل صار يقرّر تشكيلة الحكومة، وتسمية رئيسها، وتسمية رئيس الجمهورية. وعندما كان يعجز عن فرض رئيس الحكومة، الذي يعدّ من حصّة السنّة في نظام المحاصصة الطائفي اللبناني، كان الحزب يتمسّك بـ "الثلث المعطّل" الذي يمكّنه من شلّ الحكومة أو منعها من تمرير سياساتٍ معينة، أو حتى إسقاطها إذا شاء، كما حصل مع حكومة سعد الحريري الأولى في يناير/ كانون الثاني 2011. وبتحالفه مع حركة أمل، الجناح الآخر للشيعية السياسية اللبنانية، والتي يشغل رئيسها منصب رئيس البرلمان منذ نيف وثلاثين عاماً (!) بات الثنائي الشيعي يسيطر على عملية انتخاب رئيس الجمهورية أيضاً، إذ ينفرد رئيس المجلس النيابي بتقرير مواعيد انعقاد جلسات انتخاب رئيس الجمهورية وفضّها، وقد يقرّر حتى إغلاق المجلس ووضع مفاتيحه في جيبه، كما فعل مراراً. ويستطيع الثنائي الشيعي عندما يعجز عن فرض مرشّحه "تطيير" نصاب الجلسة النيابية، كما حصل الأسبوع الماضي، رغم وجود إجماع مسيحي على رفض "المرشّح الشيعي" لمنصب رئيس الجمهورية المسيحي.
في العراق، تجري الأمور بطريقةٍ مختلفة قليلاً، وإنْ تؤدِّ إلى النتيجة نفسها، ذلك أن من غير المهم من يفوز في الانتخابات، لأنّ القوى المسلّحة الحليفة لإيران هي التي ستتولّى، في نهاية المطاف، تشكيل الحكومة. والواقع أن العراق هو البلد الوحيد في العالم الذي تنتهي فيه القوى الخاسرة في الانتخابات في السلطة. هذا ما حصل عام 2010 عندما شكّل ائتلاف دولة القانون برئاسة نوري المالكي الحكومة، رغم أنه خسر الانتخابات أمام القائمة العراقية، بقيادة إياد علاوي، وتكرّر في انتخابات عام 2021 عندما شكّل "الإطار التنسيقي"، المحسوب على إيران، الحكومة، رغم أنه خسر الانتخابات أمام التيار الصدري الذي انزوى تحت تهديد السلاح.
الديمقراطية في أكثر تعريفاتها شيوعاً هي طريقة لإدارة التنافس وتداول السلطة بطريقة سلمية تتم إجرائياً عبر صناديق الاقتراع، حيث يتولى الفائر إدارة شؤون الحكم والدولة وفق البرنامج الذي تم انتخابه عليه فترة محدّدة. ما يحصل في العراق ولبنان، وبالتأكيد في إيران، لا يمتّ إلى الديمقراطية بصلة. لكن هذا لا يهم، وحديثنا عنه هنا أقل أهمية في نظر هؤلاء، لأن الغاية بالنسبة لهم هي السلطة، وقد اعتلوها بقوة السلاح، وسيستمرون في ذلك طالما أنّهم يملكونه دون الآخرين.

AA8F4D7D-04C2-4B96-A100-C49FC89BAEBA
مروان قبلان

كاتب وباحث سوري