ديمقراطيّتنا الكسيحة
يُحتفى اليوم، الخامس عشر من أيلول/ سبتمبر، باليوم العالمي للديمقراطية، منذ قرّرت ذلك الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 2007، "بهدف تعزيز مبادئ الديمقراطية والتمسّك بها"، داعية الدول الأعضاء والمنظمات إلى جعل هذا اليوم مناسبة لزيادة الوعي بأهمية الديمقراطية، حيث "لا يمكن لمثال الديمقراطية أن يتحوّل إلى حقيقةٍ واقعةٍ إلا بالمشاركة الكاملة والدعم من قبل المجتمع الدولي والهيئات الحاكمة الوطنية والمجتمع المدني والأفراد".
يجدُر بنا الوقوف، في هذا اليوم، أمام حال الديمقراطية في عالمنا العربي، وهي حالٌ يمكن وصفها بالكسيحة. ولعلّ في تركيز يوم الديمقراطية هذا العام على أهمية حرّية وسائل الإعلام للديمقراطية وللسلام ولتحقيق أهداف التنمية المستدامة ما يؤكّد هذا الوصف، حين نرصد أحوال حرية الصحافة ووسائل الإعلام، وحتى وسائل التواصل الاجتماعي، في بلداننا.
لو حصرنا حديثنا على المشرق العربي، يمكننا تذكّر بعض إرهاصات الممارسة الديمقراطية في العهد الملكي، رغم محدوديّتها وما اعتراها من ضعف البدايات، لنجد أنّها سرعان ما تلاشت بنشوء الأنظمة الجمهورية، على أيدي العسكر الذين لم تكن الديمقراطية من أولوياتهم، ويمكن القول إنّها ما زالت كذلك.
شاع مناخ من التفاؤل أن تؤدّي التحوّلات التي عرفها عالمنا العربي قبل أكثر من عقد، وأطلق عليها الوصف الملتبس "الربيع العربي"، إلى نشوء تجارب ديمقراطية، تنهي مراحل الاستئثار بالسلطة، لكن ما اتضح أنّ ذلك لم يكن أكثر من وهم، فلدى الدولة العميقة التي ثارت عليها الشعوب، يومها، من القوّة والرسوخ، ما يجعلها قادرةً على كبح أيّ توجه نحو الديمقراطية. ومن جهة أخرى، لم تظهر القوى التي تصدّرت أحداث الربيع العربي، بعد أن استولت على الحكم في بعض البلدان استيعابها تعقيدات الأوضاع في بلدانها، وتصرّفت مع الأمر كما لو كان فرصة للإمساك بمفاصل كل شيء في الدولة والمجتمع، غافلة عن أن سيرورة البناء الديمقراطي في أي مجتمع طويلة ومعقّدة، تراعي توازنات القوى في المجتع المعني، وتحسب الحساب لما هو عليه من تنوّع وتعدّدية.
أثار ما شهدناه ونشهده في عالمنا العربي سوالاً مُهمّاً بشأن "جدوى" الديمقراطية إذا كانت ستدفع إلى صدارة المشهد السياسي قوى غير ديمقراطية، أو تستخدم الديمقراطية مطية لهذا الصعود، وهو أمرٌ قابل لنقاشٍ معمّق شريطة ألا ينحو نحو رفض الديمقراطية ذاتها بوصفها قيمة إنسانية وأسلوباً في الحكم وفي الأداء السياسي. آلية الديمقراطية ذاتها هي ما يسمح باحتواء مخاطر معاداة الديمقراطية من داخلها، وما دامت القوى التي توصف برامجُها بالمحافظة خارج اللعبة الديمقراطية، الأرجحُ أنّ هذا يعطي مواقفها رواجاً وجاذبية، خصوصاً حين تكون في موقع الضحية، لكن الاندماج في العمل السياسي من خلال أدوات الديمقراطية، وفي مقدّمتها الترشيح والانتخاب للمجالس المحلية والبرلمانية جدير بأن يُعقلن الخطاب، ويدفعه نحو الوسطية والاعتدال.
بثقة يمكن القول إنّ العالم العربي عاد إلى ما كان عليه قبل تحوّلات 2011، بل أصبح في حال أسوأ إذا ما وقفنا أمام الحروب الأهلية أو ما يشبهها، التي نشأت في بعض الدول، كليبيا واليمن وسورية، والمستمرّة. وفي ظرفٍ كهذا، لا يمكن تصوّر أن تكون الديمقراطية أولوية في بلدانٍ ينشد أهلها، قبل كل شيء، الأمن والاستقرار ووضع معيشي أفضل، فضلاً عن أنه لا يمكن تصوّر نشوء أي ممارسة ديمقراطية في غياب مركزية الدولة، فعند سقوط السلطة المركزية في غياب مجتمع مدني حديث وفاعل، يقع البلد المعني في قبضة مليشيات قبلية ومذهبية وعشائرية، تتحوّل، في حالاتٍ كثيرة، إلى أذرع لدول أو قوى إقليمية تنتهك السيادة.
للديمقراطية وجهان، أحدهما سياسي يتصل بالحريات وبالمشاركة السياسية وبفعالية مؤسّسات المجتمع المدني، وآخر لا يقل أهمية: اجتماعي يتصل بضمان العدالة الاجتماعية والتوزيع المتوازن للثروات، والنهوض بمستوى الشرائح الاجتماعية المعدمة ومحدودة الدخل، وتأمين ضمانات العيش الحر الكريم لها. ولن تمضي عملية التحوّل الديمقراطي إلى الأمام في البلدان التي تنشد هذا التحوّل، إذا ظلت الأوضاع المعيشية لهذه الشرائح تتفاقم في التردّي، وإذا استمرّت مظاهر التمييز والإفقار، وسوء الخدمات الضرورية للمواطنين في السكن والعمل والضمانات الاجتماعية، وظلّ الاستقطاب الحادّ بين الفقر والغنى، وهشاشة الفئات الوسطى ومحدودية تأثيرها، وهي الفئات التي عُرفت على الدوام بصفتها مرتكزاً اجتماعياً للتحوّل الديمقراطي في أي مجتمع.