ذكرى هزيمة حزيران
لم يكن من الصواب، برأي محسوبكم، أن يُطلقوا على هزيمة 5 يونيو/ حزيران 1967 اسم "نكسة"، فالنُكُس، لغةً، معاودة المرض بعد طول شفاء، أي أن الشفاء قاعدة، والانتكاس استثناء، وهذا ليس من شأن ما يُعرف بالأمة العربية، التي يبدو أن النكس فيها هو القاعدة، على طريقة الشاعرة الخنساء التي قالت: يؤرّقني التَذَكُّرُ حين أُمسي/ فأصبح قد بُليت بفَرط نُكْسِ.. أو على طريقة الشاعر أبي نواس الذي خاطب محبوبته بقوله: تَعْجَبين من سَقَمي؟/ صحّتي هي العَجَبُ. .. النكسة قريبة في معناها من كبوة، وتعني أن الوضع الطبيعي للحصان الأصيل أن يهوي مثل جلمود الصخر الذي حطّه السيل من عَلِ، وقليلا ما يكبو، مع أن عمر أبو ريشة، عندما كتب عن سورية، عروسِ المجد، قال إن أجيادنا طالما كَبَتْ، وأسيافنا ياما نَبَتْ، أي تثلمت، وقُهرت، وكان يقصد أنها، مع ذلك، ستنهض، لأنها أمة الأحرار لا أمة العبيد الذين يليق بهم "عيش الذلّ والإرهاق".
النهضة، على كل حال، أمنيةٌ قليلا ما تقترن بالأفعال، ونحن لم نر هذه الأمنية تتحقّق في بلادنا قط، والسبب أن النخب التي يفترض بها إحداث النهضة، اكتفت، لدى سماعها أخبارَ الهزيمة، بأن أصيبت بالإحباط، والاكتئاب، وصار الشاعر العربي يستاف حبوب الصداع والشقيقة كالفستق، ويتشاجر مع أفراد أسرته، فإن سأل أولادُه أمّهم، ما به البابا؟ ليش معصّب؟ تقول لهم: ألا تعلمون؟ إنه زعلان على أمّتنا التي انتكست في الخامس من حزيران! وشبهوا الأحزان التي نتجت من "النكسة" بالورود، حتى إن شاعراً كبيراً، محمد الماغوط، كتب على غلاف مجموعة "أناشيد امرأة لا تعرف الفرح" للشاعرة حميدة نعنع، 1970، إن حميدة وردة نمت مصادفةً في مزهرية حزيران..
ليس من الإنصاف، في ظنّي، أن نحاكم أولئك الكتابَ والأدباءَ بلغة اليوم، ولكننا تمنّينا لو أنهم توقفوا عند الأسباب الحقيقية للهزيمة الحزيرانية، بل للهزائم المتكرّرة، وحللوها، وفندوها، واقترحوا على شعوبهم سبلاً لتجاوزها، كيلا تقع تلك الشعوب في الجورة ذاتها مرّة أخرى، ولكنهم لم يفعلوا، وحتى نزار قباني الذي قال إن سبب خسارتنا الحربَ وإننا دخلناها بالخطابة، والطبل والربابة، والعنتريات التي ما قتلت ذبابة، لم يطرح الأسئلةَ التي كان يفترض به وبأمثاله أن يطرحوها، كالقول: لماذا دخلنا الحرب أصلاً؟ ألم يكن هناك طريقة، أو عدّة طرق لتلافي وقوعها؛ أو، على الأقل، تأجيلِ وقوعها زمناً طويلاً حتى نصبح قادرين على خوضها وتحقيق الصمود إن لم نقل الانتصار فيها؟ هل تساءل الأدباء والمفكّرون والمثقفون المصريون، في أثناء التعبير عن حزنهم الذي سببته لهم النكسةُ، مثلأً، عن مشروعية انقلاب 23 يوليو ( 1952) ثم تنحية جمال عبد الناصر زملاءه، وتفرّده بالحكم، وقضاءه على بقايا الديمقراطية التي كانت سائدة أيام الملك، بقرارات 1954، التي أدّت إلى إلغاء الحياة السياسية لمصلحة القائد الواحد، والحزب الواحد، والصوت السياسي الواحد، وإدخال جيش بلاده، بعد ذلك، في سلسلة من المعارك ذات اللون الواحد، لون الهزيمة؟
لنعترف بأنه لم يكن بإمكان أيٍّ من الأدباء والمفكّرين والأدباء السوريين التساؤل عن السهولة الغريبة التي حصلت بموجبها هزيمة حزيران 1967، وعن قرار الانسحاب الكيفي الذي أصدره وزير الدفاع حافظ الأسد: إن كان هدفه إنقاذ حياة الجنود من التفوّق الكبير للجيش الإسرائيلي، مثلاً، لماذا أدخل أولئك الجنودَ في تلك المعركة أساساً؟ وإذا كان هدفه التبرّعَ لإسرائيل بمرتفعات الجولان، أليس من واجبه إعلام الشعب السوري، مالك تلك المرتفعات بذلك؟ وإذا كان عدد كبير من مثقفينا قد أشادوا بقيادة حافظ الأسد التاريخية التي أدّت إلى ما سمّي (زوراً) انتصار تشرين 1973، ألم يكن حريّاً بهم الإشارة إلى أن بطل الانتصار هذا، كان، نفسه، بطل الانسحاب الكيفي؟