ذكريات السوريين وألقابهم
تغير نوع الذكريات عند الشعب السوري. بالأمس القريب، السابع من إبريل/ نيسان 2021، مرّت الذكرى التاسعة لمجزرة اللطامنة. وقبلها بأيام الذكرى الرابعة لضرب مدينة خان شيخون بالكيماوي، ومجزرة الساعة في حمص، ومذبحة البيضا، وكيماوي الغوطة.. كانت لدينا، في السابق، ذكرياتٌ مؤلمة، ولكنها كانت تتكرر من دون تحديث: وعد بلفور، تقسيم فلسطين، هزيمة حزيران، وذكرى الشهداء الذين أعدمهم جمال باشا في السادس من مايو/ أيار 1916. وهو واحد من الباشوات الثلاثة، مع أنور وطلعت، أركان جمعية الاتحاد والترقي الذين انقلبوا على السلطان عبد الحميد الثاني، وحكموا الدولة العثمانية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى 1918. جاء إلى دمشق على رأس الجيش الرابع في سنة 1915، وذهب ليحارب الإنكليز في قناة السويس، وهُزم، وعاد إلى دمشق، ونفذ في بيروت ودمشق إعداماتٍ بحق الرجال الوطنيين، بعدما لفق لهم تهمة التخابر مع الفرنسيين والإنكليز.
كان السوريون، قبل هذا التاريخ، معتادين على أخبار القتل ومناظر الدماء من خلال صراعات الينيشارية، والكابيكول، واليارلية التي صورها الكاتب فؤاد حميرة ببراعة في مسلسله "حصرم شامي"، المأخوذة فكرتُه عن كتاب البديري الحلاق "أحداث دمشق اليومية".. ومع ذلك، استفظعوا فعلة جمال باشا، وأطلقوا عليه لقب "السفاح"، وسمّوا الساحة البيروتية التي شهدت الإعدام "ساحة الشهداء".. في أيام حكم حزب البعث الممتدة منذ سنة 1963، أَلصقت المناهج المدرسية لقب "السفاح" بجمال باشا، واستفاضت في الكلام عن إعداماته، وأشادت بالرجال الوطنيين الذين رحبوا بالمشنقة، ولقبوها "أرجوحة الأبطال".. وفيما بعد، أطلقوا لقب "السفاح" نفسه على محمد أمين الحافظ الذي تسلم رئاسة سورية بين يوليو/ تموز 1963 وفبراير/ شباط 1966، وألصقوا به لقباً آخر يدل على شدة الغباء، هو أبو عبدو الجحش، ووصفوه بجملة مسجوعة هي: مع أبو عبدو السفاح، نصف الشعب في سجن المزّة، ونصفهم الثاني في مقبرة الدحداح. فأما عن كونه سفاحاً فمصدرها أنه، خلال اضطرابات سنتي 1964 و1965، قصف جامع السلطان في حماه، واقتحم الجامع الأموي في دمشق، وقتل مواطنين كثيرين. وأما اللقب الآخر فتروى عنه حكايات كثيرة، جسّد إحداها ياسر العظمة في تمثيلية كوميدية، ترينا أنه كان يتلقى أخبار مديري المؤسسات الحكومية الفاسدين، فيقول: إش عليه؟ هدول رفاقنا. ما مننسى أنهم مناضلون، كانوا يطلعوا مظاهرات ضد المستعمر، وينفّسوا دواليب (عجلات) سيارات المعارضة. وثمّة طرفة معبّرة رواها محمد أمير ناشر، تقول إن وفداً من علماء حلب ووجهائها التقوا، سنة 1963، رئيس الدولة البعثية الجديد، أمين الحافظ، وقام فيهم مفتي حلب المرحوم الشيخ محمد الحكيم خطيباً، وكان من جملة ما قاله للرئيس، بلهجته الخطابية الرصينة: لقد سَرَّنا، يا سيادة الرئيس، أنكم ستنتهجون النهج الاشتراكي في إدارة البلاد، فهلا حدّثتمونا عن رؤيتكم حول تطبيق الاشتراكية؟ هل أنتم مع الاشتراكية العلمية، أم الطوباوية، أم أنكم من أنصار اشتراكية سان سيمون؟ فالتفت إليه الرئيس أبو عبدو قائلاً: أنا ما بفهم بكل هـ "الأكل الهوا".. اللي بعرفه إني بدي أطَبِّقْ الاشتراكية وبس.
أخيراً، ثمّة طرفة تروى عن حافظ الأسد، ولكنها تنطبق على كل الديكتاتوريين المتخلفين الذين يتوالون على حكم هذه البلاد المنكوبة، ملخصها أن رجلاً سبّ حافظ الأسد علناً في مقهى بلدته. وفي اليوم التالي، جاءه خبر أن أحد المخبرين "الشرفاء" كتب بحقه تقريراً، فخاف، وتنكّر بزي درويش، وهرب. هام على وجهه في البراري والقفار، حتى وصل إلى قرية، كان لدى أهلها ميتٌ يبحثون له عن شيخ يلقنه الشهادتين، فقال لهم: أنا شيخ ابن شيخ، دعوني ألقنه.. فأجلسوه إلى حافة القبر، وصار يبربر بكلام غير مفهوم يوحي بأنه تلقين، والحقيقة أنه كان يقول للميت: لَقَّنْتَكْ تلقينَكْ، وأنت متّ على دينك، وإذا طال حكم حافظ الأسد، كلنا لاحقينَك.