11 نوفمبر 2024
ذلك الفستان في "كان"
بزعم تحقيق التوازن بين قارّات العالم كما قالوا، اختار القائمون على مهرجان كان السينمائي، في دورته الجارية، إسرائيل بين 17 دولة تشارك في عرض 24 فيلما روائيا طويلا وخمسة تسجيلية طويلة وفيلم قصير واحد، من كلاسيكياتٍ لمشاهير في الإخراج السينمائي، وذلك في احتفاليةٍ بمناسبة العام السبعين للمهرجان العالمي العتيد. وكان يمكن استهجان غياب السينما المصرية العريقة من هذه الاحتفالية، إلا أن تغييب سينماتٍ أخرى، ذات حضور على مستويي الصناعة والفن، كالروسية والهندية، سيجعل الأمر عاديا ربما، وإن حضرت سينما موريتانيا (!)، غير أنه ليس ممكناً تمرير وجود السينما الإسرائيلية في هذه التظاهرة بالعاديّة نفسها، فأيّ إضافاتٍ وإنجازاتٍ خاصة لهذه السينما، لتصير مشاركتها هذه تحقّقا لتوازنٍ جغرافي؟
ولا تحضر السينما الإسرائيلية هنا فقط في المهرجان، وإنما أيضا في جناحٍ خاص بها أيضا، ينشط من أجل اجتذاب مشاريع سينمائية لإنتاجها في إسرائيل. والظاهر أن هذا كله لا يجذب اكتراث الصحافات الأجنبية، المهتمة بالسينما وجديدها وجوائزها، في تظاهرة كان العالمية التي يتبارى الآن على الظفر بسعفتها الذهبية 19 فيلما، لم نقرأ أن واحدا منها إسرائيلي. ولم يكن واحدُنا ليلتفت إلى قصة السينما الإسرائيلية هذه في مهرجان كان، لولا أن وزيرة الثقافة والرياضة في دولة الاحتلال، ميري ريغيف، والموصوفة من أوساط إسرائيلية غير قليلة بأنها امرأةٌ سوقيةٌ وغبيّةٌ، تشاطرت في محاولتها الاستثمار الدعائي لأزعومة القدس الموحدة المحرّرة عاصمةً لإسرائيل، فمرّت على السجادة الحمراء في طريقها إلى مشاهدة فيلم الافتتاح، وهي ترتدي فستانا أبيض، رُسمت عليه صورة القدس وأسوارها وقبة الصخرة فيها، كلّفها كما قالت ألف دولار، بغرض لفت انتباه العالم إلى ما تحوزه "أورشليم القدس" من مكانةٍ خاصةٍ لدى إسرائيل، ولديها هي الوزيرة التي تتصف بأحط مظاهر العنصرية المقيتة، والتي لم نعد نصادف الأخبار عنها إلا مشتملةً على مقادير ظاهرةٍ من البلاهة، كما تبدى حالها هذا مرّة في خبرٍ عن مغادرتها قاعة أمسيةٍ فنية، لمّا غنّيت فيها قصيدةٌ لمحمود درويش.
تُرى، هل نجحت ميري ريغيف في استعراضها الدعائي السمج في "كان"؟ أم أن ظهورها بذلك الفستان عَبَر في الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي، مع ازدرائه والتنكيت والضحك عليه، ومع رسومٍ أخرى، سارع نشطاء في وسائل التواصل الاجتماعي إلى إشهارها، تظهر فيها الوزيرة المذكورة تلبس الفستان نفسه، بعد أن رُسمت عليه تعبيراتٌ عن جرائم إسرائيلية مشهودة؟ مؤكّدٌ أن استفزاز الفلسطينيين والعرب الذي أرادته هذه المرأة لم يحدث، وأن الرأي العام في مطارح عديدة لم يحفل بهذا التمثيلية، الفقيرة فنيا، في أثناء افتتاح أهم حدثٍ عالميٍّ للسينما. وإذا كانت المتطرّفة المعلومة توسّلت، في مشهدها العابر ذاك، ردّا على قرارات "اليونسكو" التي أكّدت مجدّدا رفض احتلال القدس، فإن المنظمة الأممية، المعنيّة بالثقافة والتربية والعلوم، ليست في وارد أن تنشغل بأوهام الوزيرة الإسرائيلية هذه، والتي تستحكم في مداركها، طالما أن ريغيف، وحدها، على ما تأكّد وتبيّن، كانت "مسرورةً لنجاحها في طرح موضوع القدس في المهرجان المهم من خلال فستانٍ بألف دولار"، على ما نقلت "يديعوت أحرونوت" عنها. وطالما أيضا، أنها وحدها التي تصدّق تخريفها عن "بناء جسرٍ للسلام بين الأفكار والمعتقدات والثقافات بواسطة الثقافة". والمعلوم أن الليكودية، صاحبة هذا الكلام، كانت متحدّثةً باسم جيش الاحتلال، وطالما سوّغت جرائمه، وهي التي، في موقعها الوزاري الراهن، تتزّعم تحرّكاتٍ في الأوساط الإسرائيلية الحاكمة والأهلية، من أجل إلزام العرب الفلسطينيين، أهل الأرض وسكانها الأصليين، بالولاء لدولة الضم والنهب التي تمثلها صاحبة الفستان الذي ذاعت السخرية منه.
يجوز أن نرى في فعلة ميري ريغيف في مهرجان كان دأبا إسرائيليا على كل ما من شأنه توظيف مناسباتٍ ثقافيةٍ وفنيةٍ عالمية، من أجل ترويج التدليس إيّاه عن الفلسطينيين والعرب معادين للسلام، فيما دولة الاستيطان هي عنوان السعي إلى السلام. هذا حادثٌ ومعلوم، إلا أن بدعة الفستان كانت فاشلةً وخاسرة.