رامي شعث أيضاً وأيضاً
أمّا وأن الناشط المصري الفلسطيني (والعكس صحيح)، رامي شعث (50 عاما)، نُفي من مصر إلى فرنسا، وأُجبر على التخلّي عن جنسيته المصرية شرطاً للإفراج عنه من سجونٍ أمضى فيها 900 يوم حبسا احتياطيا، فهذا يعني أن النظام في مصر صار محصّنا من فائض الخطورة التي كان يمثّلها عليه رامي، محتَجَزا في السجن أو مقيما في البلد. .. ليس بغير هذه السخرية يُفهم خطف رامي شعث من منزله في القاهرة في 5 يوليو/ تموز 2019، ثم حبسه، وترحيل زوجته الفرنسية، وإشاعة اتهاماتٍ له لا تستقيم مع العقل، ثم ربطه بمجموعة نشطاء تم ترتيب قضيةٍ ضدّهم، أفاد رامي ومحاميه لاحقا بأن المحقّقين معه لم يوجّهوا إليه أي سؤال بصددها، ثم الأسبوع الماضي الإفراج عنه، استجابةً لتدخّلٍ فرنسي، على أن يتخلّى عن جنسيته المصرية التي اكتسبها من والده المزدوج الجنسية، ووالدته المصرية، وأن يُبعَد إلى بلده (طيّروه إلى عمّان، ففلسطين محتلّة وليس فيها مطار فلسطيني، ثم طار إلى باريس). وليس من سؤالٍ يلحّ هنا سوى عمّا أحرزه الحكم في مصر من افتعال كل هذه القصة. وفي القناعة، من قبلُ وبعد، إنه كان يُعاقِب هذا الشاب لنشاطه ضمن حركة مقاطعة إسرائيل، فأسئلة المحقّقين معه تركّزت على جهدِه هذا، وهويات أعضاء الحركة، على ما أوضح محاميه، بعد أن تعذّر إثبات خرافة نشره أخبارا كاذبة، متعمّدا، عن الأوضاع في مصر، واستحالَ ثبوت ارتكابه جرائم (!)، بالاشتراك مع جماعةٍ غرضها تعطيل أحكام الدستور، ومنع مؤسسات الدولة والسلطات العامة من ممارسة مهماتها (!)، فضلا عنه أنه جرى اعتقال زملاء مصريين له في مقاطعة إسرائيل.
تحترف السلطة الراهنة في مصر الطخّ على نفسها، من فرط حماقاتها، سيما في اعتقالاتها الطائشة، واحتجاز ناشطين ومثقفين وأصحاب رأي، واقتراف صنوفٍ من الاضطهاد مريعة فيهم، ومنذ وثبة "3 يوليو" في 2013 قضى نحو 900 مصري في السجون بالإهمال الطبي والتعذيب وغيرهما. ولا تُنسى قولة والدة المغدور الإيطالي، جوليو ريجيني، إنهم في المعتقل المصري عذّبوه كما لو كان مصريا. ومع بقاء آلافٍ محتجزين باتهاماتٍ ملفقة، وفي ظروف سيئة، ومع نقصانٍ فادحٍ في المساطر الإجرائية في التحقيق والمقاضاة، ومع الخلل المهول في راهن العدالة في مصر، فإن رامي شعث يُصبح محظوظا، وقد نال حرّيته، بعد إسناد من حملةٍ عربيةٍ ودوليةٍ تضامنت معه، ومع ضغوطٍ فرنسيةٍ من أجله، بالتوازي مع ابتلاع التنويريين إياهم ألسنتهم بشأنه. وثمّة من رجّح أن إطلاق سراحه استجابةٌ لمطلب إدارة الرئيس بايدن تحسين أوضاع حقوق الإنسان، والإفراج عن معتقلين سياسيين، لتُفرج عن جزءٍ معلّق من منحة مساعدات عسكرية تبلغ 300 مليون دولار. وفي هذا السياق، جاء الإفراج عن علا القرضاوي وإسراء عبد الفتاح ورامي كامل وباتريك زكي. والمؤكّد أن تدخلاتٍ أميركيةً وأوروبيةً ضاغطة، ومباشرة على الرئيس عبد الفتاح السيسي، تُجدي نفعا، فليست منسيةً جلسة ترامب مع آية حجازي في البيت الأبيض، بعد استجابتهم في القاهرة لطلبه الإفراج عنها، وهي التي رفضت إجبارها على التنازل عن جنسيتها المصرية، الأمر الذي لم يقدر عليه الناشط محمد سلطان الذي جرى نفيه إلى أميركا. والظاهر أن السلطة الراهنة في مصر تستطيب الأخذ بسنّة الاحتلال البريطاني، نفي الخصوم والمناضلين، سعد زغلول وأحمد عرابي مثلا.
أجاد رامي شعث القول، بلغةٍ إنجليزيةٍ واثقة، أمام صحافيين تجمّعوا في انتظاره أمام مطار ديغول قرب باريس، إنه سيستمر في النضال من أجل أن تكون مصر أفضل، وسيواصل إصرارَه لتحرير أصدقائه، وقد تعرّف على كثيرين في سجونٍ بعضُها تحت الأرض، وكل واحدٍ منهم إنسان، وليس مجرّد رقم. وأجادت أسرته في بيانها، وقد أعلنت استياءها من إجبار رامي على التنازل عن جنسيته المصرية شرطا للإفراج عنه، وكان يجب أن يجري هذا "غير مشروط، بعد سنتين ونصف السنة من الاعتقال الظالم في ظروفٍ غير إنسانية". و"مصر كانت وستبقى وطن رامي، ولن يغيّره التنازل القسري عن جنسيته أبدا". أجاد كثيرون، صادقون، في نعتهم ما ارتكبته السلطة الحاكمة في القاهرة بحقّ رامي بما يستحقّ من شجب وتنديد. وليس مفاجئا خرس الملتحقين بالطغيان وأثوابه وشبّيحته عن الجهر بموقف أخلاقي، فيما يثرثرون عن تنويرٍ وتقدّمٍ وديمقراطية.
.. حرية رامي شعث منقوصةٌ فيما مظاليم عديدون محتجزون.