رجاءً: أعطونا "مساحة"
حمّى المساحة تستبدّ بالمثقفين والمتعلمين والجهلة، وبالشعوب والملوك أيضاً.
شهيرةٌ مقولة محيي الدين بن عربي الفلسفية، الشعرية، الفيزيائية: "الزمان مكانٌ سائل، والمكان زمانٌ متجمّد". وهي مقولة سبق بها أنشتاين بمئات السنين، ثم رأيناها في لوحة سلفادور دالي، الساعات السائلة. كان صديقُنا الشاعر السوري، منير دبّاغ، قد كتب قصيدة بعنوان "أزرق لكنه أسود"، ثم شاعت العبارة حتى في الإعلانات الألمانية، فقيل أصفر لكنه أسود، فأنزلنا عليه قولاً مثله: مكانٌ لكنّه زمان.
يطمع جميع الطغاة في تجميد الزمان، ويودُّ أحدُهم لو يعمّر ألف سنة، ويردّدها أنصارهم شعاراً في المسيرات، توقاً إلى منية الخلود المستحيلة.
لم يطمع في الأبدية زعيمٌ أكثر من حافظ الأسد، كان قد جمّد سورية وحنّط شعبها، لكن خلطاً يقع بين الزمان والمكان في أقوال الكتّاب والمتحدّثين على الفضائيات، وهم يُكثرون من استعمال ألفاظ الكمّ والمساحة في أحاديثهم، ويُلبسون الزمان بالمكان، حشفاً وسوء كِيلة، ويساوون بين ظرفي المكان والزمان، فضيف الفضائية يريد من مضيفه "مساحة" تعبير، يقول: أعطِني مساحة، وهو يقصد المهلة. ويقول المُصاب بعمى إعراب المفعول فيه: منهم من لديه مساحة، فهو يستخدمُها إلى أقصاها، يقصد صفحة التواصل الاجتماعي.
وقال قائل: في خطبة عرفة هذا العام 1445 هجرية تحدّث الخطيب الشيخ ماهر المعيقلي عن أهميّة طاعة وليّ الأمر، وشدّد على وجوبه، وأعطى لذلك مساحة واسعة، سواء في بيان الوجوب أو في الدعاء لوليّ الأمر. لكن ما شأن الإندونيسي والأفغاني بوليّ أمر المعيقلي، يا أبو مساحة؟ ويقول ثالث: كان الأردن مساحة ملائمة للحراك الشعبي. ويقول أحدهم متضايقاً: ابتعد عن مساحتي الشخصية، يقصد صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي.
نزحت الشعوب العربية من؛ سورية واليمن ومصر ولبنان، بحثاً عن "مساحة" جديدة، بعد أن طفق ملوكُهم مسحاً بالسوق والأعناق، ليس لأن صلاة العصر فاتتهم، كما فاتت النبي سليمان عليه السلام، بل لأن عروشَهم باتت مهدّدة بالزوال. أما نصري شمس الدين الذي غنّى يوماً "بالساحة التقينا بالساحة" فكان يعني ما يقول، من غير خلطٍ بين المفعول فيه ظرف مكان، أو ظرف زمان. الزمان زمانٌ والمكانُ مكان.
يخلط مثقّفو هذه الأيام بين الحجم والعدد والمقدار أيضاً، ويكثرون من استعمال لفظة الكمية، فيقول واحدهم: انظروا إلى كمّية الألم في غزّة، ولقد: هالتني كمية الدماء المسفوحة فيها، وروّعتني كميّة الخراب، وإنَّ كمية الكذب لا تُطاق، وإنَّ حجم القصف على غزّة مرعب. وتكثر تعبيراتٌ مثل: كميّة الحب، كميّة الترحيب، حجم الحقد، حجم التحريض. ويقول قائلهم: والله إنَّ كمية اليأس والإحباط التي أشعر بها قد سدّت نفسي عن الطعام.
ويستعمل مراسلو الفضائيات والصحف ووكالات الأنباء تعبير "وسط" كثيراً في عناوين الأخبار: وكان العرب يستعملونها للمكان، خذ مثلاً قول الصحيفة: تتواصل احتجاجات الجامعات الأميركية وسط مخاوف إلغاء مراسم التخرّج، والشيكل يتراجع وسط توقعات باجتياح إسرائيلي، ويتواصل القصف وسط انقطاع للمعونات الغذائية.
اتصلتُ بصديق إعلامي حصيف وألمعي، له حظ وافر من الذوق اللغوي والأدبي مستنكراً إكثارهم من لفظ "وسط"، وتوسّلت إليه وإلى زملائه أن يتوسّطوا قليلاً في استخدامه، ونحن قومٌ لا توسّط بينا، فدافع عنها، قائلاً إنها أفضل جسر لربط المساحات بعضها ببعض، "وسط" تكاثر الأحداث وتشابكها، وكان رأيي أنَّ حرف العطف يجزئ عنها غالباً.
وكنت أرى في شأن استبدال ظرف الزمان بظرف المكان أنَّ جميع الرؤساء الذين تولّوا مناصبهم وهم يعيشون "وسط" الوطن العربي، قد قدّموا قطعة من الأرض رشوة لتبوُّؤ منصب الرئيس. ... هذه تجارة الملوك العرب: ظرف مكان مقابل ظرف زمان، زنازين ضيقة مقابل كرسي طويل العمر.
لقد ارتفعت الأسوار بين الدول العربية وبين الحارات في الدولة الواحدة، ولعلّ الحدود ذابت من الشوق بين الزمان والمكان.