رسائل امرأة فلسطينية إلى أم كُلثوم
تقليديّاً، يُستعاد، في ذكرى وفاة أم كلثوم، الكلام الذائع غالباً، عن عظمة صوتها، ودويِّ حضورِها في فضاء الغناء العربي، وخلود اسمِها. ويُؤتى على تفاصيل من سيرتِها، ومن شخصيّتها المركّبة، ومن وطنيّتها ومصريّتها، كما قرأنا في مراجعاتٍ مسترسلةٍ في ذكراها (توفّيت في 1975) التي عبرت السبت الماضي. ولكن هذه السطور ترمي سهماً آخر في هذه الاستعادة، عندما تلتقط رواية الفلسطيني علاء حليحل (1974) "سبع رسائل إلى أم كُلثوم" (الأهليّة للنشر والتوزيع، عمّان، 2023)، ثم تراها إضافةً طيّبةً في ما قد تجوز تسميتُها "غواية أم كلثوم" في السرديات والفنون العربية الحديثة، فإلى لوحاتٍ وتعبيراتٍ تشكيليةٍ بلا عدد (أعمال لأسعد عرابي وبهجوري وغيرهما مثلاً)، وإلى حضورٍ لها (أو صوتها غالباً) في قصصٍ ورواياتٍ عربيةٍ عديدة (منذ نجيب محفوظ وصولاً إلى شيخة حليوي)، صارت سيّدة الغناء في موقع الشخصية المركزية في أعمالٍ روائية، كما لدى السوري فوّاز حداد والمصري محمد بركة اللذيْن أعطياها أن تحكي بأناها، فيما كان الراوي هو من تحدّث عنها في روايةٍ للبناني سليم تركية، غير أن مركزيّتها لدى ثلاثتهم لم تجعل اسمَها في مسمّيات رواياتهم نفسها، على غير ما فعل حليحل الذي لا تتعلّق روايتُه أبداً بأم كلثوم، وهذه مفارقةٌ ربما، وإنما "الغواية" بها تجعلها شخصيةً ثامنة (أو تاسعة) في الرواية، تنحصرُ فاعليّتها في أن الشخصية المركزية (هاجر) في مجرى القصّ تُرسل إليها سبع رسائل، تنطق فيها عن جوّانيّاتها، تستأنس في أم كلثوم صوتاً لها، هي المجروحة في أنوثتها. أمٌّ لولديْن، وعلاقتها بزوجها مشوبةٌ باختلالٍ ظاهرٍ، وهو الذي لم تتزوّجه عن حبّ، بعد أن غادرها (وغادر البلاد) من كانت في علاقة غرامٍ معه. شغوفة بأم كلثوم التي تراها أنثى مثلها في الوُسع أن تفهمها، أن تكون صديقةً متخيّلةً لها، تُحاول أن تُشركها بالذي فيها من أسئلةٍ وقلقٍ وحيرة، عندما تحكي لها عن كلِّ شيء، "تُفضفض" لها بما سيوحي لك، أنت القارئ، برغبة التحرّر من قيودٍ موصوفة، من حالٍ شخصيٍّ وذاتي، ثم عائلي.
لك أن ترى رواية علاء حليحل الرابعة في متْن الرواية الفلسطينية الجديدة بشأن السؤال الوطني لدى فلسطينيي الداخل (1948)، وهذا صحيح، فهذه موضوعةٌ أساسيةٌ هنا، سيّما وأن الفضاء الزماني للنصّ إبّان الانتفاضة الفلسطينية الأولى، في الضفة الغربية وقطاع غزّة، الانتفاضة التي يبدو متّسقاً فنّياً وموضوعياً أن تفرح بها هاجر (كما تُبلغ أم كلثوم)، فيما زوجُها (مصطفى) لا يكترث بهذا الحدث، فالسياسة لا تعنيه أصلاً، قبل أن يتحوّل، شيئاً ما، ويرفض القمع الإسرائيلي، من دون أن يتحرّر من تقليّديّته في علاقته بزوجته وولديْه. غير أنك تفتري على الرواية إن غفلتَ عن طبقاتٍ أخرى في النصّ تجعله مشغولاً بالاجتماعيِّ العام، بل أيضاً، من قبلُ ومن بعد، بالفردانيِّ الشخصيِّ الذاتيِّ المحض لدى كل شخصية، سيّما صاحبة الرسائل السبع التي يطالعها القارئ غير متتابعة، إذ ينصرف، بين واحدةٍ وأخرى، إلى ما يحكيه الراوي عن زوجها (هاجر) مصطفى وولديهما، يزن ونور، وعن أخيها ثابت وعن المعلّمة روز في المدرسة وعن وجدي، العامل في محجر مصطفى، لتنهض العلاقاتُ المتداخلةُ بين هذه الشخصيات، على تنوّع مداركها بشأن العالم والوجود وإسرائيل وفلسطين، بالرواية التي تبدو، في وجهٍ أوضح لها، معنيّةً بالتوازي بين الجهر بصوتٍ ضد الظلم الاجتماعي والعائلي والجهر بصوتٍ ضد قوّةٍ قاهرةٍ ضاغطة، هنا، حيث تمثيلاتٌ مرئيةٌ وغير مرئيةٍ للنكبة (ثمّة مقطعٌ لافتٌ في النص يحيل إليها) وهناك، على مقربةٍ، ثمّة الانتفاضة وبيانات قيادتها الموحّدة.
إن أمكن لغير قراءةٍ متفحّصةٍ في الرواية، أبعد كشفاً من هذه الالتفاتة العجولة، أن تقع على مستوياتٍ من الانفصام الملحوظ في طبائع الشخصيات (كلّها؟)، وتردّدها وارتباكها، فإنك، تلحظ، بيُسرٍ ربما، رفعَ الصوت عاليا، كما أم كلثوم والانتفاضة التي ترفع الحجرَ ضد المحتل، مُرسَلةً تناور، حضوراً واختفاءً، في هذا النصّ الذي يحمل شيفراتٍ عديدةًً ضد الانتهاك والاستغلال، وإنْ ينتهي بقتل الأخ يزن أخاه نور (أيُّ رسالةٍ هنا وأيُّ إيحاء؟)، غير أن تبيّن هذا كله، وهو كثير، شُغلُ نقّادٍ ودارسين، لا شغل معلّقٍ راقَه أن يرى روايةً جديدة، مُبهحة حقّاً، تضجّ بالحياة، وذاتِ كثافة، وفيها محمولاتٌ غزيرةٌ، تنتسبُ إلى ما صار يتراكَم في مجرى "غواية أم كلثوم" في عمارة الرواية العربية، بإسهامٍ فلسطينيٍّ هذه المرّة.