رسالة إلى أديس أبابا
كان من المقرّر أن أشارك في الاجتماعات التحضيرية للجبهة المدنية لإيقاف الحرب واستعادة المسار الديمقراطي في السودان، المنعقدة في أديس أبابا، بين اليوم السبت 21 أكتوبر/ تشرين الأول حتى 25 منه، بحضور عديد من الأحزاب السياسية والقوى المدنية والمبادرات الوطنية والشخصيات القومية. لكن ظروفاً شخصية حالت دون ذلك.
تهدف الاجتماعات إلى التوصّل الى توافق بين المدنيين الديمقراطيين على تصوّر واضح لإنهاء الحرب الدائرة في السودان، وتحظى باهتمام ودعم دولي كبيريْن، إذ من المتوقع أن يتم فيها دمج عدة مبادرات مقدّمة من شخصيات قومية، مثل مبادرة رئيس الوزراء السابق، عبدالله حمدوك، ومبادرة السفير نور الدين ساتي، وغيرها من مبادراتٍ أطلقت في الشهور الستة الماضية.
دفعتني موانع السفر إلى الكتابة عما أتمنّاه من المجتمعين في أديس أبابا، فقد ظلّت بلادنا دوما أسيرة لعجز الفعل. على مدار تاريخها العسير، لم تعدم المبادرات وتوصيف المشكلات ووصف الحلول. منذ مؤتمر المائدة المستديرة في مارس/ آذار 1965، حتى الاتفاق الإطاري في مارس 2023، بل وبعد حرب 15 إبريل، يكرّر الطرفان المتصارعان الحلول المعلّبة ذاتها التي يعلمها الجميع. فما الذي ينقصنا؟ نعرف المشكلة، ونضع لها الحلول، ونوقّع لتنفيذها الاتفاقيات والمواثيق، ثم لا نحقق من ذلك شيئاً. ونعود على بدءٍ كل مرة لنوّصف المشكلات، ونكرّر الحلول ذاتها. تلك دائرة شرّيرة أخرى تدور فيها بلادنا، مثل دائرة انقلاب – ثورة – انقلاب. ولكن لعلها المرّة الأولى في تاريخ السودان التي تجتمع فيها قواه المدنية في ظرفٍ شديد الحساسية والخطورة يهدّد البلاد بالفوضى والتقسيم.
إن كان هناك ما يحتاج أن يتذكّره المجتمعون في أديس أبابا فهو أن الحلول المعلّبة موجودة. وكثيرة، ومعلومة. وفي الغالب لن يختلف "إعلان أديس" عما سبقه من بيانات واتفاقيات وإعلانات سياسية. سيدور حول الأسباب نفسها ويطرح الحلول ذاتها، ربما بالعبارات التي طُرحت بها من قبل. قد لا تنقصنا، نحن السودانيين، الإعلانات السياسية، لكننا نحتاج عزيمة دخول التاريخ، أن نتذكّر جميعنا أن التاريخ يقف راصداً متخيّراً. وإذا كان البشر، في العموم، يرغبون في الخلود عبر التناسل لتخليد أسماء الآباء والأجداد والعائلة، فإن الساسة والمشتغلين بالعمل العام يعرفون أن خلودهم بيد التاريخ، لا باستمرار النسل.
من المهم أن يستشعر الفاعلون المدنيّون أنهم يتحرّكون في لحظات مهمة سيرصدها التاريخ أنها كانت محدّدة لمستقبل هذا البلد. ويقتضي هذا الاستشعار النظر إلى الموقف الصحيح من التاريخ، أنه هو المصلحة الشخصية والحزبية، حتى لو بدا هذا الموقف في اللحظة الآنية تنازلاً أو تراجعاً.
ينبغي أن يستحضر المجتمعون في أديس أبابا أنهم ربما وجدوا أنفسهم في خانة الآباء المؤسّسين، إن هم أحسنوا إلى أنفسهم وإلى بلادهم بالعمل الجادّ والحقيقي لنزع الشرعية عن هذه الحرب المدمّرة، والوصول إلى طريقةٍ تجبر طرفيها على وقفها، ومن ثم إيجاد واقع سياسي مدني جديد بسلطة انتقالية مدنية، وإبعاد للجيش عن السياسة، وإنهاء وجود قوات الدعم السريع وقوات الحركات المسلحة. فأن يختاروا لأنفسهم وبلادهم خير من التناحر الشخصي والإيدلوجي الذي لن يزيد حرائق السودان إلا حطباً.
إن كان هناك ثمّة أمل في أديس أبابا، وفي تكوين الجبهة المدنية لإيقاف الحرب واستعادة المسار الديمقراطي، فهو أن القوى السياسية الحزبية المنظمة جزء من هذه الجبهة وليست كلها، فهذه المرّة تداعت النقابات المنتخبة ولجانها التسييرية وكيانات المجتمع المدني ولجان المقاومة لتكون فاعلاً أصيلاً. وهو ما كان مفقوداً في الفترة الانتقالية، الأمر الذي جعل القوى السياسية المدنية وحيدة في مواجهة تحالف الجيش والدعم السريع. أما اليوم، فإن أغلب القوى المدنية الحية يسعى إلى التوافق لوضع خريطة طريق لمستقبل هذا البلد الذي يقف على ماسورة البندقية. ويقف التاريخ منتظراً، يكتب ما تفعلون. فتذكّروه.