رقصة الشيخ مورو
(1)
رقصة الشيخ مرصودة، كما كل أفعاله، فالأضواء مسلّطة عليه من كل حدب وصوب. وثمّة من يتصيد له الأخطاء، ويضخّمها ويتوسع في تأويلها، ومنصّات التواصل مليئة بصور الشيوخ وهم في لحظات "إنسانية"، إن جاز التعبير، عادية عند الناس، لكنها عند الشيوخ مختلفة، ومجلبةٌ للتعليق والنشر والتأويل، وهذا طبيعيٌّ إلى حد ما، فما بالك إن كان الشيخ خلافيا ومن "المشاهير" ممن يثيرون الجدل، حيث تصبح كل خطواتهم مرصودة تحت الأضواء.
بداية، أوضح القيادي الإسلامي التونسي الشهير، الشيخ عبد الفتاح مورو، في تصريح متلفز، بشأن الصورة التي نشرتها الفنانة مريم بن مولاهم، وهو "يراقصها" كما أشيع، حيث قال إنه لم يرقص، بل إن ما حدث أنه لبّى دعوة أبيها لحفل الزفاف، مع زوجته، وقرأوا الفاتحة فيه. وحين همّ بالخروج، دعاه والدها لتهنئة العروس والسلام عليها، فلبّى الدعوة، وتوجه إلى العروس، وسلّم عليها، فاصطادت كاميرات المصوّرين تلك اللقطة، وبدا أنه يراقصها. والحقيقة أنه لم يفعل كما يقول، ولم يكن أمامه من بد إلا أن يقدّم التهنئة للعروس. ويشرح وجهة نظره هنا رادّا على من هاجمه، قائلا إنه يتواصل مع جميع الشرائح في بلده، وكل ما فعله أنه زار بيتا، وليس مرقصا أو "كباريه"، بل بيت محترم فيه رجل، وهو ديدنه في التواصل مع أبناء شعبه. والزيارة لا تعني أنه يقرّ أو يؤيد ما تلبسه العروس أو ما يحدث في حفل الزفاف، بل هو يتفاعل مع كل طبقات المجتمع في بلده، ويشاركهم أفراحهم وأتراحهم.
(2)
عبد الفتاح مورو، أحد أعلام العمل الإسلامي في عصرنا هذا، وهو النائب السابق لرئيس حركة النهضة ونائب رئيس البرلمان التونسي السابق، وهو أحد قادة حركة النهضة التاريخيين. حظيتُ في وقت مضى بجلسة حوارية نادرة معه، في عمّان، كانت من أمتع الجلسات التي يمكن أن تقضيها مع أي رمز من رموز العمل الإسلامي، فهو نمط جديد من أنماط رجال الدعوة الحركيين. ليس له كثيرون ممن يشبهونه في جرأته وقدرته على رؤية واقعنا بعيونٍ جديدةٍ كل الجدّة. لهذا هو شخصية مثيرة للجدل.
ينشغل الشيخ بإعادة بناء مفاهيم وصناعة فكر تنويري، والانصراف إلى ما هو أهم من الانشغال بتهنئته مريم
على مدار ساعتين، تحدّث الرجل في كل القضايا التي تشغل بال الأمة. وأذكر أنه في سياق الحوار، أثيرت حادثة اغتيال السياسي التونسي اليساري، شكري بلعيد، واتهام الإسلاميين بها. وكم كان مثيرا للانطباع، حين نقل لنا الشيخ طرفا من ملامح آخر لقاء له معه في التلفزة التونسية، حيث تمنّى بلعيد على الشيخ أن ينضمّ إلى حركة اليسار، فيما تمنّى الشيخ عليه أن يضمّه إلى الاتجاه الإسلامي. وهيئ لهما، في نهاية الحوار، أن البثّ انتهى على الهواء، وصادف بث بعض الموسيقى، فأخذ كلاهما يرقصان على أنغامها. وظهرا كلاهما، اليميني واليساري وهما يرقصان، وهو موقفٌ شكل مصدر طرافةٍ وفخر للشيخ، وهو يروي هذه الواقعة ردا على من اتهم التيار الإسلامي باغتيال بلعيد. وهو أيضا موقفٌ يشي بواحدةٍ من أهم مكونات شخصية الشيخ وطروحاته المنفتحة على الواقع، من دون تعصب أو انغلاق.
(3)
مما قاله مورو، في جلستنا تلك، وقرأته في حواراته الصحافية أيضا: "الإسلام هو الحل شعار فارغ". و"الإسلاميون ليسوا خياراً دائماً". "لم تدرك الحركات الإسلامية أن المطلوب حالياً نظرة جديدة تأخذ بالاعتبار الواقع الراهن". "لا يوجد في أدبياتنا، كحركة إسلامية، مبحث خاص بالحكم في العصر الحديث من منظور إسلامي". "لم يكن أحد من أصحاب القرار في العالم يرغب في أن يكون الإسلاميون البديل عن الديكتاتوريات التي أطاحت بها الشعوب" "أخطأ الإسلاميون عندما تصوروا أنهم البديل". "الحراك عندي، الآن، حراك وطني، يجب ألا يعادي الكيان الإسلامي العام". وهنا بيت القصيد، فتلبية دعوة زفاف أو خطوبة لفنانة أو فنان جزء من فلسفة الشيخ في التعامل مع أبناء شعبه. ورقصة الشيخ مع بلعيد، أو سلامه على الفنانة، ليسا إلا ترجمة لفلسفته في الانفتاح على جميع الأطياف في بلده. ولعل هذا سر شعبية الرجل وحب ناس كثيرين له، ليس في بلده فقط، بل في سائر البلاد العربية.
(4)
قال يوما المفكر الكويتي، عبد الله النفيسي، إنه قال للرئيس التركي طيب أردوغان في لقاء معه، إبّان انتخابه زعيما جديداً لبلاده،: أنا ممن يمرّون في شوارع إسطنبول، ويرون هذه المناظر المخالفة لدين هذه الأمة وتاريخها، فماذا أنت فاعل في هذا؟ فيردّ أردوغان بكل ارتياح: لا شيء، هذه مهمةٌ سهلةُ ومتأخرة. أول ما سأقوم به هو إنعاش اقتصاد البلاد وإيجاد فرص عمل، وإنشاء المصانع، وإنهاء المديونية التي تضع رقبة البلد تحت سكين عدوها، وتحسين البنية التحتية، وإيجاد مدارس وجامعات تليق بهذا الشعب وهذه الأمة وهذه الأجيال القادمة، وسأبني المستشفيات التي تعالج المريض وتجعل الإنسان قوياً عاملاً مخلصاً، وسأبني الطرق وسأشق الأنفاق في كل البلاد، وسنصنع سلاحنا وطعامنا ونؤمن أرضنا وبحرنا وسماءنا. وبعد ذلك نعيد تركيا إلى منظومة العالم الإسلامي. أما ما تقوله، يا دكتور عبد الله، فهذه المظاهر كانت موجودة أيام الرسالة النبوية المحمدية الأولى في مكة المكرمة، ولم يبدأ بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يبدأ بها ليؤلب المجتمع عليه. بدأ في تثبيت العقيدة، وتكوين فئة من الشعب والمجتمع، يستعين بهم ويمدونه بمعونتهم ويشاركونه في تثبيت العقيدة الجديدة التي ستكون لبنة الدولة الأولى في النفوس والعقول وتثبيتها وسط تلك البيئات غير المنتمية لها أصلاً. عندما تكون الدولة قوية في الاقتصاد والزراعة والصناعة والتعليم والجيش، ورأى الشعب هذا، وأصبح المواطن لا يخاف على رزقه وحياته وأمنه وحريته وحرية عائلته، عندها فقط سيستجيب لما نطلبه منه بكل رضا ومحبة. وعندما تتغير مناهج التعليم والتدريس ويتغير الجيل بجيل حر كريم متعلم متفهم يملك إرادته، عندها ستجد هذه المناظر تختفي وتذهب، وتذوب كما يذوب الثلج، لتظهر طهارة هذا الشعب ونظافة هذه الأمة، كيف ستطلب من الشعب أن يتغير ويستمع لما تقول وهو جائع وفقير ومريض ومستعبد في وظيفته ورزق عياله؟
.. أحسب أن الشيخ عبد الفتاح مورو خير من يطبق هذه الرؤية التي تندرج تحت باب فقه الأولويات، فبدلا من الانشغال فيما يغرف فيه المجتمع من مظاهر، فرضتها الأزمنة الحديثة، ينشغل الشيخ بإعادة بناء مفاهيم وصناعة فكر تنويري، والانصراف إلى ما هو أهم من الانشغال بتهنئته مريم، أو الرقص مع بلعيد.