09 نوفمبر 2024
رواة "ذاكرة حيّة"
لا يضمّ كتاب "ذاكرة حيّة.. شهادات حول تهجير الفلسطينيين عام 1948" (الرواة للدراسات والأبحاث، رام الله، 2017) سوى ستّ رواياتٍ شفوية، توضح مقدمة الكتاب أنها "خيارٌ صغيرٌ" من 115 رواية، وثّقتها باحثات مؤسسة الرواة، بالصوت والصورة. .. تنجذب إلى قراءة هذه الشهادات المرويّات، ربما للعاميّة التلقائية فيها، الشديدة البساطة، وأيضا للتعرّف على المجهود الذي تبادر إليه هذه المؤسسة التي قامت في عام 2012، في مشروعها الذي تقول، في موقعها الإلكتروني، وفي مقدمة الكتاب الذي أنجزت إعداده وتحريره الباحثة والناشطة الفلسطينية، فيحاء عبد الهادي، إنه مشروعٌ يهدف إلى "الحفاظ على الذاكرة الفلسطينية، بجمع مقابلاتٍ شفويةٍ من راوياتٍ ورواة، يتمتّعون بذاكرة جيدة، ممن هُجّروا عام 1948 إلى مدن وقرى أخرى داخل فلسطين (الضفة الغربية، وغزة، ومناطق 48) وإلى الشتات (الأردن، ولبنان، ومصر، وتشيلي)، وتغطي المقابلات بعض المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية). والظاهر أن هذا المشروع الطموح يحتاج إلى جهد إعلامي نشط للتعريف به، ولينال التقدير الذي يستحقّه، وقبل ذلك وبعده، للإضاءة على الأهمية القصوى لحماية الرواية الفردية الفلسطينية عن التهجير ونهب الأرض والطرد في نكبة 1948 وما تلاها، لما في هذه الرواية من إفادةٍ بالغة الحيوية في كتابة تاريخ الفلسطينيين، وتاريخ وطنهم.
ولولا معرضٌ متقشّفٌ، في حجرةٍ صغيرة متقنة التجهيز، في دارة الفنون في عمّان، افتتح أخيرا، ويستمر حتى سبتمبر/ أيلول المقبل، لما تأتّى لكثيرين، في الأردن مثلا، ومنهم صاحب هذه السطور، أن يعرف شيئا عن مؤسّسة الرواة للدراسات والأبحاث، ومجهودِها في توثيق روايات مهجّرين فلسطينيين من مئات القرى والأرياف الفلسطينية. وييسّر المعرض لزائره فكرةً طيبةً عن هذا المجهود، وقد ضم صور بعض الذين حكوا رواياتهم الشفوية، وتم تصوير بعضهم وهم يروون، فيمكنك، في المعرض، مشاهدتهم وسماع شهاداتهم مما يستلونه من الذاكرة من تفاصيل بعيدةٍ، باقيةٍ غير منسية. وكان حسنا أن مديرة المؤسّسة، فيحاء عبد الهادي، أضاءت على أهمية إشراك الجمهور الواسع في معرفة تفاصيل تجربة التهجير، وخصوصا من لم يُعايشها أو يعرفها من الشباب، "حتى تبقى حيةً في الذاكرة وفي التاريخ". وجاء حاذقا قول عبد الهادي عن التّطلع إلى "مجتمعٍ يستفيد من طاقات أبنائه، نساءً ورجالا، ويعيد كتابة تاريخهم الاجتماعي، بالتركيز على روايات الفئات المهمّشة التي أقصيت عن كتابة روايتها التاريخية، مثل النساء".
ولمّا كانت أنشطةٌ لمؤسساتٍ فلسطينيةٍ، أهليةٍ غالبا، في غير بلدٍ، تلتقي مع ما تقوم به "الرواة للدراسات والأبحاث"، فالمأمول أن تتلملم هذه المجهودات، إن أمكن، وأهل مكّة أدرى بشعابها طبعا، في "شبكةٍ" خاصة بهذا العمل المتعلق بتوثيق مرويّات نكبة الطرد والهجرة إبّان 1948 وبعيْدها. وبديهيٌّ أن هناك أطنانا من هذه المروّيات يمكن جمعها من مطارح الشتات الفلسطيني المتعدّد، ما يعني أن منهجيات بحثٍ وتدوينٍ وتوثيقٍ سيكون من الأدعى الاستئناس بها في هذا العمل. وهذا كتاب "ذاكرة حية" قد ضم شهادات أمين محمد عبد المعطي من صفوريّة في الناصرة، وحمدي مطر من قالونيا في عمّان، ورشيدة فضالات من عراق المنشية في مخيم البقعة في الأردن، وفريال حنا جمعة أبو عوض من بيت جالا في سانتياغو في تشيلي، ولبيبة رشيد عبد الرحمن عيسى من صفوريّة في مخيم عين الحلوة في لبنان، ومحمد أحمد حسين القاضي من كوكبا في القاهرة. وبذلك، عكس هذا التنوّع بعض دلالةٍ، كاشفةٍ إلى حدٍّ ما، عن شساعة الشتات الفلسطيني. والأهم أن هؤلاء الرواة تحدّثوا عن هناءة بالٍ في قرى وبلدات وديعة، وبيوتٍ أنيقة، قبل جائحة الاحتلال الأول. كما تحدّث بعضهم عن قتل مباشر وغير مباشر وترويع وقصف بالطائرات والمصفّحات والدبابات، وإطلاق الرصاص الحي، وغير ذلك من صنوف العدوان. وعلى ما في السرد الضافي عن هذا وغيره من إيحاءاتٍ عن الفقد والخسران، ومن شعورٍ متوطّنٍ في النفوس بالحنين إلى البلاد وتلك الأيام، فإن العامية الطلقة تزيده حرارةً، في استرسالها وشفويّتها التي تفيض إمتاعا ومؤانسة.