رواية عن بليغ حمدي
أما وأننا نعيش في زمنٍ عبر فيه بليغ حمدي، فهذا من لطائف الخالق علينا، نحن عباده، فحقّ الشكر لنعمائه، ثم الشكر لبليغ نفسِه، لأنه ساهم، بقدرٍ ثمينٍ، في أن يكون الابتهاج بالغناء متعةً عن حق، وانشراحا للنفس، وانبساطا للروح. وهذا من بين كثيرٍ صنَعه هذا العبقري، وهذه صفةٌ له مستحقةٌ خُلعت عليه، في سنواتٍ قليلة، فقد توفي في 1993 عن 62 عاما، أمضى سنواتٍ أخيرةً منها في مرضٍ صعب، بعد محنةٍ شديدةٍ، اضطرّته إلى الإقامة في اليونان ثم باريس، بعد أن نالت من شخصِه ومزاجِه.
كتبوا أن نحو ثلاثة آلاف لحنٍ أنجزها ملك الموسيقى، وهذا وصفٌ آخر له، محقٌّ أيضا. وإذا ما أجرى واحدُنا بينه وبين نفسه مسحا لأغنياتٍ يحبّها، يردّدها، يأنس لها، يستطيب سماعَها، من أم كلثوم وعبد الحليم ووردة ونجاة وشادية وصباح وعفاف راضي (وغيرهم)، سيجد كثيرا منها من ألحان بليغ حمدي. وليس في هذا القول انتقاصٌ مما أعطاه سابقوه محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي وسيد مكاوي و...، للغناء العربي، وإنما لأن ألحان "بلبل" (كما كان يُناديه أصحابه) تخفّفت من مهابةٍ وأناقةٍ عليةٍ اتصفت بهما ألحانهم. اختلفت عن "شغلهم" (على ما بينهم من تباينات) ألحان محمد الموجي وكمال الطويل (مثلا)، وبليغ أقلّ منهما سنا وإنْ جايلَهما، غير أن غزارة إنتاجه، والمساحات الشعبية، والطربية، الأكثر حضورا عنده، وغير هذه وتلك، جعلت ألحانه أكثر تنوّعا، وأثرى، وأوسع جمهورا، لما فيها من بساطة. ولعل هذا ما جعل عبد الوهاب يرى بليغ ملحنا موهوبا و"تجاريا" (رفض طلب بليغ الزواج من ابنته).
يظلمون بليغ حمدي الذي غنّت له أم كلثوم، وهو في الرابعة والعشرين، عندما تحتاج تسميةُ شارعٍ باسمه لحملةٍ تنشط من أجل ذلك حاليا. وعندما لا تفعل وزارة المالية المصرية ما أعلنته قبل سنوات، أنها ستطبع عملةً تذكاريه باسمه. وأيضا عندما يشيع، منذ سنوات، أن فيلما سينمائيا يجري العمل عليه، يشخّص حياة بليغ وتجربته، ثم لم ينجزه أحد. لم يتكرّم بما كان يلزم أن يُكرّم به ملحّن "فات الميعاد" و"ألف ليلة وليلة" (أم كلثوم)، و"العيون السود" و"وحشتوني" (وردة)، و"مدّاح القمر" و"زي الهوا" (عبد الحليم)، و"قولوا لعين الشمس" و"يا حبيبتي يا مصر" (شادية)، و"الطير المسافر" و"في وسط الطريق" (نجاة)، و"زي العسل" و"عاشقة وغلبانة" (صباح)، و"يا بهية خبّريني" (محمد العزبي). وهنا، يجوز القول إن تكريما بادر إليه المصري، طلال فيصل (1985)، لصاحب هذه اللطائف، لمّا خصّ سيرته بروايةٍ، سمّاها "بليغ" (دار الشروق، القاهرة، 2017). ومن مدخل الذائقة، لا من باب النقد واستحقاقاته، أحسبُ أنها روايةٌ حسنةٌ، فيها بعض الذكاء، وشائقةٌ إلى حدٍّ طيب، غير أنه كان في وسع كاتبها أن يصنعها أفضل وأمتن. وفي كل الأحوال، اجتهد الكاتب، وهو يختبر قدرته على كتابة روايةٍ تفيد من السيرة الشخصية، وهذه تحتاج بحثا وتقصّيا. وقبل هذين وبعدهما، تحتاجُ أن تتحرّر من غواية التوثيق والتأريخ، بأن يتقاطع فيها المتخيّل بالحقيقي. وقد نجح طلال فيصل في مواضع في الأمريْن في روايته التي كان بليغ واحدا من شخصياتها المركزية الثلاث، وطافت أنفاسُه وأسماء أغنياته في صفحات السرد الذي تتناوب فيه ثلاث حكايات، إحداها عن الكاتب نفسه باسمه الصريح. وتتوزّع الوقائع، غالبا، بين القاهرة وباريس. وتراوغ لعبة الحكي في الانتقالات الزمنية، من لحظات ثورة 11 يناير وما بعدها إلى أزمنة بليغ حمدي منذ مولده مرورا بدراسته الجامعية الحقوق من دون أن يتخرّج، وتلحينه وأدائه تواشيح مع الشيخ سيد النقشبندي، بطلب من أنور السادات، وسقوط المغربية سميرة مليان من شرفة شقته، وما لحقه من أذىً كثير بعد تلك الواقعة العام 1984. وفي القلب بين هذا كله، تعرّفُ أم كلثوم به، وحبّ وردة الجزائرية له وزواجهما (بعد زواج أول قصير له وبعد زواج أول لها)، وافتراقهما بعد سبع سنوات، عند جدالٍ بينهما في أبوظبي، وكتابته هناك أغنية "الحب اللي كان" والتي أدّتها لاحقا بألحانه ميادة الحناوي. ثم بقاؤهما، وردة وبليغ، على تواصلٍ وصداقة وود، بل ومساعدتها له في محنته، وأدائها أغنية "بودّعك"، كلماته ولحنه، وكانت بعض مقاطعها مرسلةً من بليغ مع قسيمة الطلاق (!). ويجوز حسبان رواية طلال فيصل رواية حب، بخيوط حكاياتها الثلاث، وحكاية بليغ ليس كما أي حكاية، من قبل ومن بعد.
.. إنما هي، السطور أعلاه، بمناسبة ذكرى وفاة بليغ حمدي (غدا 12 سبتمبر/ أيلول)، من أجل دعوة إلى قراءة روايةٍ عن هذا الصانع البديع، ومن أجل بقاء اسمه في الوجدان والحشايا، فالغناء الشرقي العربي بعده ليس كما قبله. وبداهةً، باقيةٌ لأصحاب الفخامة، عبد الوهاب والسنباطي والموجي ومكاوي والطويل و... مساحاتهم المضيئة فيه.