"روح" وإبداع الفوز طنجور
من إعداد الكاتب الفلسطيني، علي الكردي، أنجز المخرج الفوز طنجور، أخيراً، فيلمه الوثائقي "روح"، لصالح "الجزيرة الوثائقية"، بعنوان فرعي: إعادة إحياء المسرح في إدلب. وكنّا قد شاهدنا للمخرج، في 2016، فيلماً متميزاً بعنوان "ذاكرة بلون الخاكي"، يعرّي فيه حكم العسكر وطبائع الاستبداد. الملفت، هنا، فكرةُ إحياء المسرح في إدلب، وقد رأينا باب مسرح المركز الثقافي، في الفيلم، وعليه قفلٌ متّسخ، صدئ، موشكٌ على الاهتراء بسبب عوامل الزمن. وهذه إشارة بصرية ترمز إلى توقّف الحركة المسرحية والثقافية في هذه البلاد، بفعل الأحداث الدامية المستمرّة منذ 12 سنة. وقد جعل الفوز خط تجديد المسرح محوراً، أو منوالاً نسج عليه تفاصيل المسرحية الأكثر اتّساعاً، وفظاعة، ودموية، وتنوعاً، أعني الأحداث الواقعية التي أدّت إلى هدم الواقع، ثم إعادة بنائه، اضطراراً، وعلى نحو اعتباطي.
يمكننا تلمّس عوامل نجاح فيلم "روح" في أشياء كثيرة، منها اختيارُ الدكتور إبراهيم سرميني بطلاً للفيلم. والمسرح في إدلب، لمن لا يعرف، انطلق في أوائل الخمسينيات، وكان مروان فنري أحد مؤسّسيه، وأكثر مخرجيه شهرة وإنتاجاً، وقد عمل فيه، عبر هذا التاريخ الطويل، كثيرون، منهم فوزي الكيالي الذي أصبح، فيما بعد وزيراً للثقافة، وقُدّمت عليه مسرحية "تراجيديا أوليس" التي كتبها رياض نعسان آغا. وزار المسرح أكثر من مبدع سوري، منهم وليد إخلاصي وممدوح عدوان وعبد الفتاح قلعجي. وجذب الإبداعُ المسرحي لفيفاً من هواة المسرح، فقدّموا تجاربهم فيها، مثل جسور فنري، ومحمود حميداني، ومفيد نحات، وصولاً إلى جيل سامر سيد علي، وإبراهيم سرميني اللذيْن قدما، قبيل سنة 2011، أعمالاً مهمة، برؤية شبابية حداثية.
لم يقتصر دور البطل أبي الورد، إبراهيم سرميني، على المبادرة لاستعادة المسرح، وأداء المشاهد المسرحية، مع شبّان آخرين، منهم ابنه ورد، بل كان فاعلاً في مسرحية البشر الذين ينازعون البقاء على الأرض، يحكي، لابنه في مطلع الفيلم، عن أبيه، ما يعني أننا، هنا، أمام ثلاثة أجيال، الجد، والأب، والابن، وثلاثة عصور، الماضي، والحاضر، والقادم، ويدرّب بعض أطفال المدرسة على حركاتٍ رياضيةٍ، وصيحاتٍ تشجيعية.. ونرى، من خلال مشاهد الفيلم التي تسير بسلاسة بصرية ورمزية مدهشة، كيف يجدّف الناس في وحل الحياة، يهربون من القصف الكثيف إلى أماكن القصف الأقلّ، ويحاول كل منهم إقناع الآخرين بأن الحياة ستستمر. وماذا يلزم للحياة؟ فحم للتدفئة، ماء للشرب وغسل الأواني والاستحمام، مازوت، بنزين للمولّدة التي تعمل بالتشغيل اليدوي، فإذا كانت معطّلة لا بد أن تستكمل الأم تعليم طفلها على ضوء الشموع.
نرى، في الفيلم، شارعاً عريضاً بين دغلٍ من أشجار الزيتون، عليه سيارات مختلفة الموديلات، عواصفَ تحاول اقتلاع الخيام، فيقف البشر في مواجهتها، يعيدون تربيط خيوطها وتقويتها، وغسيلاً منشوراً في مكان متعرّضٍ للقصف، تُستخدم بقاياه ونواتئه كما لو أنها حبال. وعلى مقربةٍ من الغسيل مكان يتجمّع فيه ماء المطر، وتشرب منه العصافير، وشلة من الأصحاب يتبادلون الأحاديث عمّن هرب من البلد، فيقول أحدهم إن شلته كانت تتألف من 25 شاباً، بقي منهم اثنان... ومَن جرّب الخروج من البلد ثم عاد مخذولاً، لأن الخروج من الديار ذلّ.. صحيح أنه ذلّ، ولكن البقاء ليس نزهة، إنها حياة شاقّة، كلما انقضى منها يوم، سينتظر الإنسان يوماً جديداً ليصارعه، وهكذا. وفي آخر الفيلم، يجري الحديث أن إدلب أصبحت سورية مصغّرة، فيها لاجئون قادمون من مختلف المناطق.
هنا؛ لا بد من تسجيل ملاحظةٍ تتعلق بغياب المرأة عن الحياة العامّة، فلا نراها، في الفيلم، إلا في أماكن قليلة، زوجة، أو أمّا تدبّر أمور الأسرة، أو عمّة مسنة. والأمر الطبيعي أن تكون غائبة في النصّ المسرحي الافتراضي الذي قدّم بوصفه عالماً موازياً للواقع.