رِجلٌ في السلطة ورِجلٌ في القبر
يدفعنا منظر الشيخ جو بايدن، الذي كان بالأمس القريب رشيقاً متوقّد الذهن، وهو يتمايل أو يتصابى أو يتهوّر، كما قد يفعل جدٌّ عجوز لم يعد أحد يحاسبه، إلى التساؤل عن العمر المُفترَض لقادة الدول. فبايدن، وهو يقف على رأس أقوى دولة في العالم، صار طفلاً مرّة أخرى، كما يفعل جُلُّ من في عمره، وبدأ منذ منتصف ولايته الرئاسية يتصرّف مثل عجوز خَرفٍ يُوضَع عادةً، إن لم يضع نفسه، على الرفّ.
هذه ليست عنصرية ضدّ كبار السنّ، فكلنا نكبر، لا مفرّ من ذلك. لكن من الغريب فعلا أن تختلف معايير السياسة عن المعايير الأخرى؛ فحين يحترم المنطق دورة حياة الجسم والعقل، تُشجِّع السياسة الشيوخ وتجذبهم، كأنّهم يتحوّلون على كراسي السلطة كائناتٍ أخرى، لا تنطبق عليها معايير الحياة العادية.
لنأخذ مثالاً آخر من الوزن نفسه، وهو دونالد ترامب، الشخصية الهوجاء في أفضل وصف له، والذي لا يمكن وصفه أبداً بالحكمة أو التوازن النفسي، في أي مرحلة عمرية مرّ فيها، يرشّح نفسه للرئاسة من جديد، وعمره الآن 78 عاماً، بمعنى أنه سيصل إلى الثمانين في منتصف ولايته الرئاسية، إذا فاز. وسيكون أكبر من بايدن الذي وصل إلى البيت الأبيض في سنّ السابعة والسبعين... مع العلم أن الشيخوخة ظاهرة منتشرة في دهاليز السياسة الأميركية.
يقول المنطق إن الهبوط في القدرات العقلية للإنسان يبدأ عند الستينيات؛ فيزداد النسيان وضعف التركيز، وتقلّ سرعة البديهة، والقدرة على تعلّم أشياءَ جديدةٍ. ما يشفع له حينها هو الحكمة والخبرة التي اكتسبها على مرّ السنين. وعندما يصل إلى السبعين قد تتراجع قدراته السابقة بنسبة النصف، وقد تتلخّص طموحاته في البقاء على قدر معقول من الصّحة وصفاء الذهن، وهو يتقدّم إلى عمر الثمانين. بعدها كلّ عام له على قيد الحياة، هديّة إضافية لا أكثر، حتى لو بلغ المائة. وحتى لو كان بصحّة جيدة بالنسبة إلى عمره، لا أحد سيزعم أنه ينتظر منه، أكثر من خوض حديث منطقي لا يطاوله الخرف.
يمكننا القول إن أفضل سنوات المرء ذهنياً هي بين الثلاثينيات والستينيات، مع هامش بضع سنوات لبعض الاستثناءات، وإلا لماذا يتقاعد الناس؟ وهل من أمر يحتاج حدّة ذهن وصلابة شكيمة مثل السياسة؟ وإذا كانت الأمور بين بين في الدول الديمقراطية، فإنها تزداد سوءا عندنا، بحكم "الفورة الديمقراطية". فعلى منوال ما تقوله إحدى المقولات المدسوسة في التراث "تخرج المرأة من بيتها مرّتين، مرّة إلى بيت زوجها ومرّة إلى قبرها"، يذهب "الزعماء" في المنطقة العربية إلى الكرسي مرّة واحدة، لا يغادرونه إلّا إلى القبر.
هل يتوقّع أحدنا أن ينزل عبد الفتاح السيسي من تلقاء نفسه عن كرسي السلطة؟ أو يفعل ما فعله عبد العزيز بوتفليقة الذي ظلّ واجهةً طوال حكم طويلة في العجز الصحّي، بحكم الشيخوخة، لمن يحكم فعلاً، هو الذي عجّز لدرجة أنه لم يعد قادراً على التحكّم في مصيره. مع العلم أن عبد المجيد تبّون بدأ هذا العام ولايةً أخرى، بعمر التاسعة والسبعين، فيما قامت ثورة 25 يناير المصرية (2011) وحسني مبارك في سنّ الثانية والثمانين، ولولاها لحكم حتى عمر الحادي والتسعين، وهو العمر الذي توفّي عنه.
تتطلّب السياسة قدرةً ذهنيةً وصحّيةً هائلةً لا يقدر عليها كثير من الشباب والكهول. فما بالك بالعجائز نساءً ورجالاً؟ وحتى لو ظل عقل الإنسان متوقّداً فإن قدراته على اتخاذ القرارات، ومواجهة أزمات ووضعيات صعبة، وهي مهمة السياسيين، لن تكون أبداً مثل من هو في منتصف العمر. ونحن نعلم لماذا يتقاعد الناس في الستّين، ليس فقط ليرتاحوا، بل لأن مردوديتهم تقلّ بنسبة تفوق النصف. ويدخلون في التصنيف الديمغرافي ضمن الفئات الهشّة، مع الأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة.
ربما يشيخ بعض الناس بكرامة، ويحتفظ آخرون بذهن متّقد حتى آخر العمر. لكن كثرة السياسيين الشيوخ تُثير التساؤلات، فربّما يحتاج الموضوع إلى قانون يضع حدّاً معيناً لسِّن السلطة، قد يسمّى بـ"الحَجْر السياسي"، يُبعد المسؤوليات السياسية عن كلّ من يفوق السبعين مثلاً، ليحول دون وضع أرجل كرسي السلطة على حافة القبر.