زاهر الغافري... الراقص في الشعر والحياة

23 سبتمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

رحل عن دنيانا، مساء السبت (21 سبتمبر/ أيلول)، الشاعر العُماني زاهر الغافري، في مدينة مالمو بالسويد، وقد أوصى بأنْ يُدفَن في قريته التي وُلِد بها، سرور (مائة كيلومتر من مسقط) التي تتردّد آثارها في شعره، حين كان يُصوّر حياةَ أجداده، وناسَ طفولته، شعراً وكلاماً. فكما تشرّبت تجربته الشعرية من معين المُعاصرَة بمظاهرها كلّها، فهي تنهل أيضاً من الإرث المحلّي العُماني، فظلّ متعلّقاً بهذه القرية يستحضر بساطتها وطبيعتها وهامشيتها، إذ عرفت سرور أكثر بوفرة الشجر، خاصّة النخيل، وبالمياه العذبة، يشقّ أرضها الخصبة ثلاثةُ أفلاجٍ مائيةٍ دائمة الجريان، فلج الحيلي، وفلج بوجدي، والفلج الأوسط. كانت مياه هذه الأفلاج تتكرّر في شعره بئراً ما فتئ ينهل منها، وتتوزّع في مسامات دواوينه العديدة، إذ كانت البداية مع ديوان "أظلاف بيضاء" (1983)، الذي كتبه على هيئة كُرّاس ووزّعه بين أصدقائه.
في بداية حياته، رحل الغافري مُبكّراً من قريته سرور إلى عدة مدن عربية وغربية، وكانت البداية مع بغداد، التي زارها صغيراً ومكث فيها حتّى يفاعته، ثمّ انتقل إلى الدراسة الجامعية في الرباط، قبل أن يستقرّ به الحال في نيويورك، ويحصل هناك على بطاقة الإقامة (غرين كارد)، ثمّ يعود إلى مسقط، ويترأّس تحرير مجلة البرواز، التي كانت تُعنى بالفنّ التشكيلي. في هذه المجلة نشر فنّانون عرب عديدون، كما كانت تزخر باللوحات التشكيلية، استثمر فيها زاهر خريطةَ علاقاته العربية الواسعة لتوسيع رقعة أقلامها عربياً، رغم أنّه لم تصدر منها سوى أعداد قليلة قبل أن تتوقّف.
عُرِف الغافري أيضاً بحميميته الواضحة وبساطته. وربّما هذه الحميمية أكثر سمة تبرز لكلّ من يلتقيه في المرّة الأولى. مثلاً حين كان يمرّ في معرض الكتاب بمسقط، كنت أُلاحظُ عددَ الذين يستوقفونه لالتقاط صور معه. لذلك، امتلأت يوم رحيله صفحات كثيرة في "فيسبوك" بصور لقاءات ممزوجة بالوداع.
كانت قراءات الغافري ومطالعاته متشعّبة، بين الأدب والسينما والفكر، وثقافته هذه كانت مقرونةً بتجربة حياته المشتعلة، التي ديدنها ترحال دائم بدأه مُبكّراً، وسكنه حتّى آخر حياته. وكانت الحداثة عنده مسألةً جوهريةً كتابةً وتفكيراً، حتّى ملابسه التي اشتهر بها، البرنيطة البيضاء أو الحمراء، وغليونه، كانت نسيجاً ضمن وعيه وقناعاته، لم يتنازل عنها حتّى في مجتمع تقليدي كالمجتمع العُماني. وكانت بيوته، التي تنقّل بينها في مسقط، مجالسَ ثفاقيةً مفتوحةً مزدانةً باللوحات التشكيلية، ومشبعةً بأجواءالألفة والكرم.
ظلّ الغافري زمناً يلتقط صورَه من بحر عُمان، وينشرها في صفحته بـ"فيسبوك"، رافعاً كأساً مُترعةً كُمَيتِيَّةَ اللون، كما يصفه المُتنبّي في بيته الشهير "إذا أردت كميت اللون صافية/ وجدتها وحبيب النَّفْسِ مفقود"، وكان كثيراً ما يترك ذكرياته في مكان، ويذهب إلى مكان آخر. وبذلك، تكون إقاماته المُتعدّدة إقاماتٍ دائمةً، وليست مُجرَّد عبور وأثر فقط، وكأنّ الشاعر هو عهدة الفضاء بمعناه الواسع، وكأنّ الحياة عند الشاعر سلسلةُ إقاماتٍ في أماكن مختلفة، يتنقّل من دون أيّ ملحميةٍ أو نُواحٍ على الوطن، ومن دون بكاءٍ على منازله وربوعه، فكان يُردّد أنّ وطنه البحر، ما يشي بأنّه ارتبط بالمكان، وليس بالأواصر الاجتماعية، كما عادة الشعراء وهم يتمرَّدون على النظام الاجتماعي بطريقتهم. والغافري، حينما كان يخرج من عُمان، يفتقده كثيرون، والآن، وقد غادر الحياة، فأيّ فقد كبير قد ترك؟
... من ديوانه "في كلّ أرض بئر تحلم بالحديقة" (2018): "عندما كنت راقصاً/ كنت أرى عيون أمّهاتي الراحلات/ الأخاديدَ المنسية في تراب أجدادي/ الألسنة المعقودة فوق أسنانٍ بيضاءَ/ المناجلَ المضيئة المركونة في زاوية البيت القديم/ بقدم عزلاء وذراع مرفوعة/ أخاطب الملائكة والسحب/ أنظر بعينين مغمضتَين إلى درب التبّانة/ أو مسحال الكبش/ أنا الغارق في مياه لا أرض لها/ لأنّني من برج العقرب/ ألوّح بذراعي الوحيدة/ عندما كنت راقصاً وأبكي".

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي