15 نوفمبر 2024
زفرة الحسن بن طلال
من بين شمائلَ غير قليلةٍ تُعجبك في شخص الأمير الحسن بن طلال حرصُه الكثير على اللغة العربية، وحمايتها، وتأكيدُه على أنها الجامع الأهم للأمة، والحامل الحضاري للثقافة العربية والإسلامية. وهو، في أحاديثه ومحاضراته ومشاركاته في المنتديات الفكرية، بل وأيضا في مُلحِه و"مزحيّاته"، يُمتعك بدقّة مفرداته، وبحنبليّته في سلامة لغته، وفصاحتها الليّنة والمطواعة. وفي جلسةٍ شائقةٍ معه، ضمّتنا، نحن جمعا من الزملاء والأصدقاء الأردنيين، أول من أمس الأحد، في مقرّ منتدى الفكر العربي في عمّان، أخبرنا أنه لمّا عاد من الغرب، شابّا في نهاية تعليمه الجامعي، وكانت لغتُه العربية غير متقنةٍ، سخر منه خاله الشريف ناصر بأنه كأنّه يتحدّث الأرمنية. وقال لنا الأمير إنه شعر بأنه لو تلقّى ضربة كفٍّ من خاله لكان ذلك أهون عليه.. وأخبرنا أنه بعد ذلك "اشتغل على نفسِه كثيرا". .. وواحدةٌ من همومٍ فكريةٍ وثقافيةٍ عديدة، انصرف إليها الأمير أبو راشد، شغلتْه وداوم على الإلحاح عليها، منذ أزيد من أربعة عقود، هي المشتركاتُ الإنسانيةُ والجامعة بين الأمم والثقافات والجغرافيات والأديان والعقائد والحضارات. وبدا في جهده النشط، محليّا في بلده الأردن، وفي فضائه العربي، وفي قارّات الأرض كلها، صاحب نزوع رسوليٍّ في هذا الأمر. ولذلك، كان ولا يزال، عضوا مشاركا في منتديات الأمم المتحدة، ومنظماتها، ومظلاتها المتنوّعة، الخاصة بالحوار الحضاري، والتواصل الثقافي بين الشعوب، عدا عن الشبكات والفضاءات الإقليمية الجامعة، في آسيا وأوروبا وأفريقيا. وفي هذا كله، وغيره، ظل الأمير المثقّف مسكونا بما يجمع الأمة العربية، ويصون وجدانها الموحد، .. ومهموما بالحوار الإسلامي المسيحي مثلا.
طاف الأمير الحسن في حديثه إلينا على حزمةٍ من القضايا، المتّصلة بهذا البعد المركزي والأساسي في مجهوده الطويل سنواتٍ، من أجل احترام "تنوّع المجتمعات والمشتركات الخلاقة"، وضد "استقطاب الكراهيات"، بحسب تعبيره الموفق، غير أن مقادير ظاهرةً من الأسف والأسى، ومقادير ملحوظةً من الإحباط، لم يكن في وسع الأمير إخفاؤها بالنظر إلى ما نشهدُه قدّامنا، في المشرق العربي الذي تتصدّع فيه دولٌ وازنة. ولعلّها مفارقةً دالّةً أن يستطرد الأمير في الحديث عن طوفان اللاجئين من هذه الدول، وبالأرقام والمعطيات الديمغرافية الموثّقة، سيما من سورية، صدورا عن هاجسٍ إنسانيٍّ متوطّنٍ في تفكيره، وذلك بعد حديثه عن القضايا الجامعة بين "أعمدة الأمة الأربعة" (العرب والترك والفرس والكرد)، وقوله إن التحدّيات التي تجمع المكونات الديمغرافية الأربعة كثيرة، غير أن "علينا أن لا ندع الفوارق تسيطر على المشتركات". ومع شيءٍ من التفاؤل الشحيح فيه، إلا أن المنطوق العام الذي تبدّى في نبرة الأمير ولغته بدا أكثر ميلا إلى التحذير مما هي عليه أحوال الأمة، ومن أن تذهب إلى ما هو أسوأ. ولذلك، ربما جاز القول إن الحسن بن طلال أطلق أمامنا "زفرة" أسىً، وطرح أسئلةً أكثر مما أجاب، لكنه، في الأمريْن وسواهما، لم يغادر إلحاحَه، المقيم في حواشيه ووجدانه، على حاجة الأمة إلى مشروع ثقافي حضاري جامع، وإلى كل ما من شأنه تعظيم شأن الوحدة الوطنية، في الأردن وغيره، وإلى تعزيز ثقافة التكافل والتضامن في مجتمعاتنا، وإلى أن تقوم الحكومات والوزارات بمهماتٍ من هذا القبيل. وقد ذكّرنا، في هذا السياق، بدعوته القديمة المتجدّدة، والتي طرحها في عدة منتظماتٍ عالمية، إلى إقامة صندوق إسلامي مالي للتكافل، وإلى نظام إنساني جديد، بعضوية الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن. وقد أوْلى الأمير، في سياق شرحه فكرته هذه، أهميةً لتطوير أداء الزكاة في العالم الإسلامي.
وكنّا قد طالعنا، قبل أيام، مقالا نشره الحسن بن طلال، عنوانه "المصير الثقافي للأمة"، اشتمل على جملةٍ من الأفكار التي تؤشّر إلى ثبات معتنقه العتيد، بشأن إعلاء الوعي المشترك للأمة، والانتباه إلى من يسعون إلى تفتيتنا إلى هوياتٍ فرعيةٍ ضعيفةٍ مستضعفة، .. "تضيّع حقنا في فلسطين، وتطمس هويتها الفلسطينية والعربية والإسلامية والإنسانية".. هل من يُنصت، ومن يقرأ، ومن يتحرّك؟