زوايا متعدّدة لاختيار رئيس وزراء واحد
أثار اختيار حزب المحافظين البريطاني ريشي سوناك لرئاسة وزراء بريطانيا ردود فعل عديدة ومتفاوتة. وهو حدث يصعب النظر إليه من زاوية واحدة، ففيه من مداخل الحكم عليه الكثير، لعل أبرزها وصول ابن مهاجرين هنديين إلى "10 داوننغ ستريت" للمرّة الأولى في التاريخ.
ظل هذا المنزل منذ العام 1905 عرشاً للسادة الإمبراطوريين البيض، وقلعة استعمارية من الطراز الأول. منه حُكمت الهند، درّة التاج البريطاني. وفي إحدى غرفه، قرّر حكام الإمبراطورية التي لم تكن الشمس تغيب عنها مصائر الشعوب المستعمَرة وحدود بلدانها. لعل تاريخ الهنود في هذا المنزل الذي بُني في 1682 بدأ مع عمّال ومستخدمين صغار. ثم تدرّجوا حتى دخول وزراء من أصول هندية لمقابلة رئيس الوزراء والاجتماع به. لكنها المرّة الأولى في التاريخ التي يصبح فيها سيد المنزل ابن مهاجر غير بريطاني. المنزل الذي وصفته مارغريت تاتشر بأنه "من أثمن مجوهرات التراث الوطني البريطاني" أصبح مقرّاً لأحد أبناء المهاتما غاندي. هندي من نسل الذين وصفهم تشرشل، أحد أشهر من سكنوا المنزل، بأنهم وحشيون ويعتنقون ديانة وحشية.
يمثل اختيار ريشي سوناك لهذا المنصب أملاً لشعوب منطقتنا التي ما زالت تدافع عن هويتها ووجودها بمنطق القبيلة والنسب، بل تستعر فيها الصراعات القبلية مريقة الدماء باسم الهوية، فهل يقدّم لنا المستعمر القديم نموذجاً جديداً للانفتاح، وسيادة القانون الذي يساوي بين المواطنين؟ جاء هذا الاختيار من حزب المحافظين المتكلّس وحامي تقاليد الإمبراطورية. لكنه رغم ذلك، وفي ظروف معينة، لم يجد حرجاً من اختيار رجل هندي للمنصب التنفيذي الأعلى في بريطانيا.
تثير صورة ريشي سوناك مع الملك تشارلز أفكارا كثيرة، خصوصا إذا ما وضعت جوار صورة عبد الكريم المنشي والملكة فكتوريا. صديق الملكة وسكرتيرها القادم من جانسي. في القرن التاسع عشر، كان أعلى منصب لمواطن هندي في البلاط البريطاني هو سكرتير الملكة. وبمجرّد وفاتها عام 1901 نُفي إلى الهند مرة أخرى، وطمست سيرته قدر الإمكان. لكن بعد 121 سنة، تتصدّر صور سوناك الأخبار العالمية مع الملك.
هذا هنديٌّ لا يمكن نفيه ولا إنكار وجوده. ولكن ليست هذه هي الزاوية الوحيدة للنظر إلى اختيار سوناك لرئاسة الحكومة، فمن ناحية أخرى، ولو تجاوزنا مسألة لونه الأسمر الذي يختلف عن بشرة اللوردات البيضاء، وخلفيته الأسرية ووالديه الهنديين القادمين من شرق أفريقيا، فإننا نجد أنفسنا أمام رجل أبيض. بل أبيض جداً، فهو سياسي محافظ ورجعي. ويتبنّى سياسات متشدّدة ضد المهاجرين، فقد ظل سوناك دوماً مؤيداً لقوانين تقليص أعداد المهاجرين إلى بريطانيا. كما أنه رجل أعمال ثري ترتبط مصالحه بالطبقات الغنية، والتي ليست من ضمنها طبعاً غالبية المهاجرين. مؤيد قوي لإسرائيل، ويعدّها منارة ديمقراطية في وسط همجي. ولعله ينظر إلى الفلسطينيين والعرب بالعين ذاتها التي كان تشرشل ينظر بها إلى أجداده الهنود. هنا نجد أنفسنا أمام رجل مختلف، وحقيقة مغايرة، فمن وصل إلى "10 داوننغ ستريت" ليس هندياً، إنما مليونير أنكلو - سكسوني، يحظى بدعم المحافظين وأصحاب الأموال، تصادف أن والده طبيب هندي.
تتحوّل قصة نجاح ابن المهاجرين الهنود في الوصول إلى قمة السلطة في المملكة المتحدة إلى قصة نجاح عملية دمج وإعادة إنتاج لأبناء المستعمرات عندما يتبنّون فلسفة المستعمر. يصبح بعدها الطريق مفتوحاً إلى القمة، ولا تعيق البشرة البنية أو الأصول الأسرية مسيرة صاحبها. لم ينجح أبناء المستعمرات في غزو الإمبراطوية، بل نجحت الإمبراطورية في تغييرهم.
أي الزاويتين أحقّ بالنظر؟ هل ريشي سوناك هو مصطفى سعيد جديد أم هو ليون الأفريقي؟ لا أعتقد أنه ليس للحقيقة جانب واحد، فهي خليط من هذا وذاك، فربما كما استطاع الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة محاربة الاسترقاق لدوافع دينية متعصبة وعوامل اقتصادية نفعية، ربما يكون لوصول رجل أبيض بوجه أسمر منافع ممتدّة تتجاوز شخصه. لم يكن الجمهوريون في منتصف القرن التاسع عشر يهتمون بالحريات والحقوق، لكن موقفهم الرافض للرقّ أصبح من أعمدة حقوق الإنسان في منتصف القرن العشرين. لم تعد ممكنةً إعادة عقارب الساعة إلى الوراء بالطعن في دوافع الجمهوريين وقناعاتهم. لذلك مهما كانت سياسات رئيس حكومة صاحب الجلالة الجديد، سيلهم وصولُه إلى رئاسة وزراء بريطانيا غيره. وسينسى التاريخ، غالباً، أفكاره وسياساته، فرغم كل شيء، لم يبق من الرئيس باراك أوباما إلا كسر احتكار السلطة لسلسلة من الوجوه الأميركية البيضاء، حتى لو لم تتغير السياسات. وهذا أمر، على قلته، فيه رمزية جيدة. لكننا نحتاج مرور بعض الوقت حتى نتأكّد من ذلك.