سؤال: لماذا لا تصالح؟
جملة واحدة من وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، عن مصالحة المعارضة السورية مع نظام الأسد، كانت كافية لإشعال صفحات التواصل الاجتماعي السورية بحرائق وقودُها قصيدة "لا تصالح" التي كتبها الشاعر أمل دنقل في عام 1976.
لو أردنا أن نصف القصيدة بجملة مفيدة واحدة، نقول إنّها خطابية، إنشائية، خالية، تقريباً، من الصور الشعرية. وإذا أردنا أن نتعمّق فيها؛ نجد أنّ دنقل يسمّيها "الوصايا العشر" لأنّها مؤلفة من عشرة مقاطع، كتبها متخيلاً أنّ الفارس كليب كتبها بدمه، والرمح منغرزٌ في ظهره، لأخيه سالم الزير، يوصيه بألّا يصالح القبيلة التي قتلته. في القصيدة مجموعة من المشكلات المنطقية... الأولى أنّ الشاعر نظر إلى الصراع العربي الإسرائيلي الذي نتج عن القضية الفلسطينية، كما لو أنّه ثأر بين قبيلتين، ثم استدعى منطقَ أسوأ حرب عبثية عرفها التاريخ، حرب البسوس التي لم يكن لأيّ من قبائل العرب الأخرى فيها ناقة أو جمل... الثانية أنّه بنى قصيدته على شعار "شعبوي" يضرب بعلوم السياسة عرضَ الحائط، فسياسيو الأطراف المتحاربة يوازنون، عادةً، بين المكاسب المحتملة لاستمرار الحرب وفوائد الجنوح إلى السلم والأضرار المتوقعة لكلتا الحالتين. أما قصيدته فتبدو وكأنّها مصادرة لحق الجميع بالتفكير، أو إجراء الحسابات، وكأنّ قائلها طفلٌ متمرّد يرفض أوامر ذويه بنزق، فإذا سألوه: ليش؟ يقول وهو يضع إصبعه على صدغه: مَزَاج!
نقدياً؛ توحي قصيدة "لا تصالح" بأنّها من شعر التفعيلة، مع أنّها لا تلتزم بحراً شعرياً محدداً، وفي بعض المقاطع تلتزم بقافية معينة مثل (هل ترى؟ هي أشياء لا تُشترى)... لكن؛ لو جرّدناها من التفعيلات والقوافي، لاكتشفنا أنّها كلام مرسَل، قائم على قواعد أخلاقية غير منضبطة، أولى هذه القواعد أنّ مبدأ "لا تصالح" بحد ذاته خاطئ، فكلّ الحروب، ومن ضمنها الحربان العالميتان، والحروب الأهلية التي شهدتها دول مختلفة، مثل يوغسلافيا ولبنان، انتهت بصلح، ولم يكن أيّ طرف فيها رابحاً بالمطلق، فحتى المنتصر الذي يُجبر خصمه على الاستسلام، يمكن اعتباره خاسراً، لأنّه سيبقى وقتاً طويلاً وهو يرمّم، ويبني، ويدفع تعويضات لمواطنيه الذين تضرّروا بالحرب... وثانيها أنّنا لو ترجمنا القصيدة إلى لغات العالم الأخرى، وبالأخص قوله: "لا تصالح على الدم. لا تصالح ولو رأس برأس. وهل كلُّ الرؤوس سواءٌ؟ وهل قلب الغريب مثل قلب أخيك؟" لاستغرب أبناءُ تلك اللغات هذا الكلام، وتساءلوا: ما الفرق بين أخيك وغيره من الناس؟
يا سيدي، وعلى الرغم من الحماس الهائل الذي أحدثته قصيدة أمل دنقل، في تلك الأيام، سافر أنور السادات إلى القدس، وفاوض، واتفق، ووقّع، وكما تجري الأمور في كلّ الدول المحكومة بنظام ديكتاتوري، فإنّ ما أراده السادات تحوّل إلى واقع على الأرض، والذين جاءوا بعده لم يكترثوا لمشاعر النخوة العروبية التي تتضمّنها قصيدة دنقل، والأنظمة التي سعت إلى التصالح مع إسرائيل، طوال سني هذا الصراع، نسيت لاءات قمة الخرطوم 1967، بل ربما اعتبرتها مزحة ثقيلة. وللعلم، قُتل السادات في سياق الصراع على السلطة، وليس عقوبةً له على مغامرته التي أدّت إلى الصلح، بدليل أنّ كلّ الرؤساء الذين جاءوا بعده ظلوا ملتزمين بالمعاهدة! ومن جهة أخرى؛ يبدو أنّ أكبر خطأ ارتكبه مقاتلو "السوشيال ميديا" السوريون هو استعارة قصيدة "لا تصالح" من أجل وضعهم الحالي، فنحن لسنا ضمن طرفي صراع محدّدين، كما في حالة مصر وإسرائيل. ووضعُنا، كما تعلمون، يشبه متاهة صحراوية يضيع فيها الجمل بما حمل، ولا يوجد عندنا شخصٌ، أو جهة، أو حزب، أو منظمة ذات صوتٍ مسموع، وكلُّ واحد يغني على ليلاه.
ملاحظة: ما ورد في هذه الأسطر لا يعني أنّني -أخاكم- مع الصلح، أو ضده.