سباق الخنافس المقلوبة
أحضر زميلنا أحمد زلّي يومًا جُعْلا معه إلى المدرسة، ليس له مثيلٌ في الجمال، يجمع ألوان الكهرمان والزمرّد والكوارتز والألماس والجمشت. إنه طاووس الخنافس، وهو أجمل من الدحاحل التي كنا نلهو بها، هي دحاحل حيّة. وفي الاستراحة بين الحصتين، أخرج علبة زجاجية من جيبه، وعرض الخنفس علينا. أخرجه، وقلبه على ظهره، وبدأ يطلب منه الاستواء وكأنه مروّض في سيرك، يجيد منطق الجعلان، وطفق يخاطبه بالتعويذة: قازي ما زي قلو بازي ..
بعد تلاوة تلك التعويذة مرّات، استجاب الخنفس لتغريده ونشيده، استوى، وأطلق جناحيه العلويين، والأجنحة الخفية الرقيقة الشفافة، وطار، لكنه انقضّ عليه وأسره وأعاده إلى علبة الكبريت.
أُعجبنا بالعرض الساحر، وبهذا الولد الذي يعرف منطق الحشرات، وطلبنا منه خنافس مثلها، فتمنّع، ثم أشفق علينا ونحن نتوسّل إليه، وأخبرَنا أن الحصول عليها يستوجب زيارة قرية خالته جولي التي تبعد عن بلدتنا ساعتين مشيًا.
انتهى الدوام المدرسي، فرمينا حقائبنا وقصدنا بيته. أخرجناه، بعد أن تلونا أمام بيته تعويذة الجُعل "قازي مازي قلو بازي"، ثم اتجهنا إلى القرية البعيدة. كنا خمسة، وصلنا عصرًا، وفكّرنا بالسباحة، وكان أول ما رأينا ثعبانا يسبح فوق سطح النهر، فذُعرنا، وانكسرنا، واتجهنا إلى مزارع القمح بسنابلها المثقلة بالحبِّ، ورأينا كثيرًا من خنافس القمح الذهبية تفرُّ مذعورةً من اقتحامنا مملكتها. اصطدنا عددًا منها، وأسرناها في علب الكبريت وعلب الدخان الفارغة، وعدنا مع غروب الشمس بتلك السبايا الجميلة.
فيما بعد، اخترعنا لعبة جديدة، هي التسابق بالخنافس، يقلب المتنافسون خنافسهم على ظهورها وينشدون لها الأناشيد "قازي مازي قلو بازي"، فمن استوت خنفسته على قوائمها أولًا، فاز بالجائزة، وكان بعضنا يهتف وبعضنا يُنشد وبعضنا يغرّد. ولم نقع، بعد أن خبرنا أمرها، على السرِّ الذي يجعل خنفساء تسبق أخرى في الاستواء، هل هو عزمها، أم هو مهارة فارسها وبراعته في التغريد والنشيد.. وكنا نجعل لتلك الجعلان الرائعة جوائز مثل: قطع سكر، بطيخة، قطع آيس كريم، صور، ألعاب.
انتشرت اللعبة في كل الحي، فاستنفر الأولاد، وبدأوا غزو المزارع والحقول بحثًا عن الخنافس، وأعجب بعض الكبار باللعبة، ونشأت مباريات، واجتهد كثيرون في معرفة أسرار الخنافس السبّاقة القوية، فلم يصلوا إلى رأي. حاول بعضهم تغذية الخنافس بالحليب أو الطحين، سعى آخرون إلى تلقينها نشيدًا. أخذنا خنافسنا معنا إلى المدرسة، فأعجبت بها المعلّمات الوافدات من مدن بعيدة، معلّمات يرتدين ثيابًا تقتبس ألوانها من الكهرمان والكوارتز والألماس والجمشت والعقيق، قدّمنا لهن عروضنا، ونال بعضنا إعجابهن، وطلبت بعضُهن اتخاذ جعلان، فأهدينا لهن بعضا منها.
واستطعنا جذب البنات إلى هذه اللعبة، فبدأن يشترين منا الخنافس مقابل مساطر ومماح وبرّايات وأقلام وبالونات وأقلام شمع وأقلام تلوين، ويلعبن بها في البيوت.
اتفقنا على يومٍ لسباق الخنافس في الاستواء، وجُعلت لها جائزة، وهي ليرة جمعت من المتسابقين، ينالها الفائز بأسرع خنفساء في الاستواء بعد القلب، وشارك نحو عشرين ولدًا في السباق الذي كان بطريقة التصفيات وخروج المغلوب، ويقتضي أن يتسابق اثنان كل مرة، وكنت آمل في نيل الجائزة، وقضيت الليل كله وأنا أخاطب خنفسائي التي أطلقتُ عليها اسم ممثلة هندية، وهو سيرابانو. وفي يوم السباق، اجتمع تلاميذ كثيرون، وهم يحملون خنافسهم، وكل متسابقٍ كتب اسم خنفسائه على صدره: سندريلا، كوليزر، ريّ القلوب، منية النفوس، فضة، ذهب..
انطلق السباق، وبدأ كل واحدٍ يغنّي لخنفسائه: قازي مازي قلو بازي.
لكل واحد لحنه، أحدهم أنشد على مقام النهاوند، بعضهم على الحجاز، بعضهم بدأ يشتم الخنفساء التي تأخّرت في النهوض: انهضي، يا عاهرة، قومي يا بنت الليل، مرّغتِ شرفي في الأرض يا بنت الحرام.
فاز، في نهاية السباق، أحمد زلّي بالليرة. كان الوحيد الذي يعرف ذكر الجُعلان من إناثها، ولم أشارك في السباق لأن خنفسائي تيبسّت من القهر وكثرة التدريب طول الليل، وأنا أقلبها على ظهرها، وكان الوقت قد فات لأسر خنافس جديدة من المزارع البعيدة.
كبرتُ، فوجدتُ زعماء الدول الكبرى يلعبون اللعبة نفسها مع الدول الفقيرة الغنية البرّاقة مثل جعلان الحصاد، وآخر متسابق قلب خنفساءه هو قيس سعيّد، وقطع لها أجنحتها معطّلا الدستور.