سد النهضة: فن مضغ الهواء
جاء رئيس وزراء إثيوبيا، أبي أحمد، إلى القاهرة، وعقد مباحثات ووزّع ابتسامات أمام الكاميرات، وأطلق تصريحات وكتب تغريدات، عن أن النيل للجميع، وسدّ النهضة كذلك نعمة على الجميع، وأن لا ضرر على أحد من الأطراف بعد عمليات ملء الخزّان المتلاحقة.
فرح المستقبلون واحتفلوا وقالوا للناس إنها مباحثاتٌ تاريخيةٌ، وإنها انفراجة كبيرة للموقف المعقد الخاص ببناء سدّ النهضة وتشغيله، مستندين على أن الجانبين اتّفقا على جدول زمني للتفاوض مدته أربعة أشهر.
يفهم العقلاء التفاوض أنه آلية للتفاهم بشأن مشروع قيد الدراسة أو بالحدّ الأدنى التنفيذ أو الإنشاء، وليس مشروعًا تم الانتهاء من إنجازه بالفعل والبدء في تشغيله بمعرفة طرفٍ في موقف أقوى من الطرف الآخر.
أما وأن سدّ النهضة الإثيوبي قد اكتمل بناؤه وتشغيله منذ سنوات، وامتلأ خزّانه مرة واثنتين وثلاثا والرابعة في الطريق، فإن الجدول الزمني للتفاوض هنا يبدو نوعًا من الركض بأقصى قوة وسرعة بعد إطلاق صافرة نهاية الماراثون، وحسم النتيجة وإعلانها، أو يمكنك القول إن ما شهدته القاهرة الأسبوع الماضي هو شيءٌ من قبيل اجترار التصريحات والتعليقات القديمة جدًا، أو كأنّنا بصدد مجموعة من الناس يمضغون الهواء بشهيّةٍ مفتوحةٍ ثم يبتلعونه ويتعاطون بعض مضادّات السمنة وأدوية حرق الدهون كي لا تتأثر رشاقتهم بعد الإفراط في تناول كمية هائلة من اللاشيء.
ليس هناك فرقٌ يذكر بين مشهدي يوليو/ تموز 2023 ويونيو/ حزيران 2018، حيث الابتسامات والضحكات ذاتها بين الشخصين نفسيهما، حين طلب عبد الفتاح السيسي من رئيس حكومة إثيوبيا أن يحلف بالله ثلاثًا أنه لن يقوم بأي ضرر للمياه في مصر، وهو ما فعله أبي أحمد واعتبره الإعلام انفراجةً ومكسبًا كبيرًا حقّقته مصر في موضوع سدّ النهضة.
مضت خمس سنوات على ذلك المشهد وذلك القسم، تخلّلتها عمليات متتابعة لملء خزّان السدّ وصرخات من القاهرة بأن هذه إجراءات عدائية تعرض أمنها المائي للخطر، ثم تهديدات على أفواه إعلاميين فكاهيين إن مصر في طريقها لنسف السدّ نسفًا وإغراقه في اليم، من دون أن يتغير شيء، حتى وصلنا إلى الأسبوع الماضي، وجيء برئيس الوزراء الإثيوبي إلى القاهرة ليجدّد التطمينات والقسم بعدم الضرر، ويبدو أن الرجل فطن إلى أن هذه الصيغة تشبع القاهرة كثيرًا، فقرّر أن يمضغ معها كمياتٍ أكبر من الهواء، فيُخاطب المصريين باللغة العربية على منصّة تويتر، مؤكّدًا أن "إثيوبيا تحفظ الأمانة، ولا تنوي الإضرار بدول حوض النيل الشقيقة" والدليل عند الرسول محمد صلى الله عليه وسلم على حد قوله في بيان رسمي إن "قيم المسؤولية والعدالة التي تتميز بها إثيوبيا قد وجدت اعترافاً وتقديراً من سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم عندما قال للصحابة: اذهبوا إلى أرض الحبشة فإن فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد.. وهو ما يتم تأكيده اليوم أن إثيوبيا شعباً وحكومة لن تُلحق ضرراً بأشقائها".
تعلم القاهرة، كما تعلم أديس أبابا، كما يدرك العالم كله أن أمر سدّ النهضة كله قد حسم منذ العام 2015 حين تم التوقيع على اتفاق إعلان المبادئ بين مصر والسودان وإثيوبيا بخصوص سد النهضة، وما أعقبه من احتفالاتٍ في العواصم الثلاث بأن هذا الاتفاق يرضي جميع الأطراف ويحفظ كل الحقوق، ثم تبيّن لاحقًا حين نظر الخبراء في صيغة الاتفاق أنه كارثي على مصر. وفي ذلك يمكن الرجوع إلى تصريح وزير الري المصري السابق، نصر الدين علام، إن المشكلة الحقيقية في صيغة الاتفاق أنه لا مرجعية لقياس كميّة الضرر حيث تم الاتفاق في إعلان المبادئ على قاعدة عدم الإضرار، من دون وضع تعريف محدّد لهذا الضرر".
المؤكّد أن أديس بابا تتحرّك مستندة إلى التوقيع الرسمي المصري في 2015 والذي منحها الحجية القانونية في كل ما تقوم به من إجراءات، في ضوء القانون الدولي، ومن ثم هي تعلم أن الطرف الآخر لم يعد يملك سوى مناشدتها واستجدائها لمنحه حصّة أكبر مما يستحقّ بموجب الاتفاق. والحال كذلك، أقصى ما يمكن أن يتوقذعه أحد من الحكومة الإثيوبية هو مزيد من العبارات اللطيفة والتطمينات التي لا تقدّم ولا تؤخّر .. فقط كمّيات إضافية من الهواء للمضغ، ومن ثم الإحساس الكاذب بالشبع.
وأكرّر ما قلته مبكرًا، حين دقّوا طبول الحرب فوق شاشات الإعلام المصري: لا حرب ستقع، ولا سلام سيحلّ، وستبقى مصر رهينة إعلان المبادئ، كما بقيت رهينة كامب ديفيد ما يزيد عن أربعة عقود مضت.