سعد الدين إبراهيم مُنتحراً
"هنيئاً للشعب المصري بقيادته السيساوية الرشيدة، وهنيئاً لتلك القيادة بشعبٍ منضبطٍ صبور" ... صاحب هذه العبارة ليس واحداً من المذيعين المصريين إيّاهم، وإنما أستاذ علم الاجتماع السياسي، داعية الديمقراطية العتيد، سعد الدين إبراهيم (84 عاماً)، ختم بها مقالته "السيسي مديراً رشيداً للأزمات ومُنقِذاً من الضلال" في صحيفة المصري اليوم، في 24/10/2020، وكتب فيها إنّه لم يمتدح أيّاً من الرؤساء المصريين السابقين في حياتهم، وإنّ عبد الفتاح السيسي الوحيد الذي لم يلتقِ به (هل التقيا بعد نشر المقالة؟ لا أعرف). وقد بسط الكاتب أسبابه في تأييد ما سمّيت ثورة 30 يونيو (2013)، وساقَ ما رآها أسباباً مسوّغةً لإسقاط نظام "الرئيس الإخواني محمد مرسي". ولمّا عُرف الناشط الأكاديمي بحماسه لنظام الرئيس السيسي، فإنّ براعته في إقناع نفسه بهذه الأسباب لا تصير مُفاجئة، غير أن المدهش أن الرجل في أمره هذا يصير رجل دعايةٍ، وليس رجل علم، ويخلع عن نفسه الرداء الذي اشتُهر به، عقوداً، مثابراً من أجل الديمقراطية والانتخابات النزيهة وتداول السلطة والحرّيات العامة وحقوق الإنسان. وأفتح هنا قوساً وأكتب إنّ سعد الدين إبراهيم كان أحد اسميْن (مع برهان غليون) انجذبْنا إلى شغلهما الفكري والثقافي، من خارج أهل الهوى اليساري والخندق الإسلامي، إبّان كنّا طلاباً في الجامعة في النصف الأول من الثمانينيات، لإلحاحهما على المسألة الديمقراطية والحريات. ويُحسب له أنّه من أبرز من كانوا وراء عقد أول مؤتمر لمثقفين عربٍ عن حقوق الإنسان (في قبرص 1983).
مناسبة تذكّر تهنئة المعتقل السابق نحو ثلاث سنوات، إبّان عهد حسني مبارك، الشعب المصري بالقيادة السيساوية الرشيدة، مقالته "أؤيّد السيسي لفترة رئاسية جديدة"، في 11 الشهر الماضي (مارس/ آذار) في "المصري اليوم"، والتي ليس من التزيّد في شيءٍ أن يُرى سعد الدين إبراهيم فيها منتحِراً تماماً، وهو الذي ظلّ يزاول انتحارَه في صمته عن انتهاكاتٍ مريعةٍ في السجون المصرية في ظلّ سلطة 30 يونيو. والمفترض أنّ الأكثر من ألف مصري ماتوا في هذه السجون (سبعة منهم منذ بداية العام 2023)، بسبب الإهمال الطبّي (وغيره) منذ إزاحة نظام الرئيس الإخواني قد بلغَه أمرُهم، وقد كتبت عنهم منظماتٌ حقوقية، بعضُها مصرية. ومن ألف باء الدفاع عن حقوق الإنسان، وصاحبُنا لا يحتاج من يعرّفه بأمرٍ كهذا، أن هذه الحقوق لا يجوز أن تُرهَن بحساباتٍ ومواقف سياسية. وهذا تحقيق في "بي بي سي عربي"، يتقصّى، أخيراً، أسباباً تجعل سجناء في مصر يحاولون الانتحار.
ومن عجبٍ أنّ الحقوقيّ العتيد يستعجل إشهارَه تأييدَه فترةً رئاسيةً جديدة (هل يخجل من تسميتها ولاية ثالثة؟!) للسيسي، قبل أن يتعرّف على أسماء منافسي السيسي وبرامجهم وفرصهم (العادلة؟) في التواصل مع الجمهور العام. ولمّا كان قد ناهض، طويلا، تأبيد السلطة والانفراد بها و"تزبيط" الدساتير من أجل هذا الرئيس أو ذاك، فإنّه يتغافل عن أنّ تمديداً سنتيْن جرى للرئيس السيسي المُنتخَب أولاً في 2014، وثانياً في 2018، بموجب دستور جديد (تم استفتاءٌ عليه طبعاً)، جعل القوات المسلحة مسؤولة ليس فقط عن الدولة ومقوّماتها، بل أيضاً عن مدنيّتها، وهذه تحتاج ممن درّس سوزان مبارك في الجامعة أن يشرح قبولَه بها، كما قبوله ما تلتحق برئيس الجمهورية من صلاحياتٍ بشأن مؤسّسة القضاء. ولا أظنّ، بالمناسبة، أنّ أستاذ علم الاجتماع السياسي الذي يجد الشعب المصري "منضبطاً صبوراً" غافلٌ عمّا ينهض به المجتمع المدني في إسرائيل في مواجهة محاولات السلطة هناك الاعتداء (بالقانون) على المؤسّسة القضائية، سيما أنّه (سعد الدين إبراهيم) من الباحثين العرب العتاقى الذين كتبوا عن المجتمع المدني، وسيما أنه من المعجبين بإسرائيل، وقد استضيف في جامعاتها ومنابرها.
يُجهِز على نفسه صاحب الدعوة إلى قطع المساعدات الأميركية عن مصر إبّان انتهاكات نظام مبارك حقوق الإنسان، والمنتقد أخيراً قيس سعيّد وعبد الفتاح البرهان، وهو يمرّ على طلبٍ لديه بشأن استمرار حبس معارضين (ما هو ومن هم؟)، وتحفّظه على تأثيرٍ حكوميٍّ على وسائل الإعلام، وينتحر تماماً وهو يسرد منجزات السيسي، تبريراً لتأييد رئاسةٍ "جديدة" له. وهو محقُّ فيها، غير أنّها فجيعةٌ أن يغفل أستاذٌ في علوم السياسة عن أنّ لكلّ الدكتاتوريات منجزاتُها التنموية (نهضة عمرانية، وزيادة عدد الجامعات...!)، وعن اعتباراتٍ أخرى يلزم أن تحكُم وجهة نظر مثقف ديمقراطي (حقاً؟) بشأن اختيار هذا أو ذاك رئيساً للبلاد... ولكن، صحّ قولُ من يقول إنّ كوارث الأمة في خيارات بعض نخبتها، من قماشة سعد الدين إبراهيم.