سقطات السياسة الأميركية في المنطقة العربية
رغم التصوّر السائد عن السياسة الخارجية الأميركية، أنها، عند بعضهم، تنطوي على خبث ودهاء، أو كياسة وعمق عند آخرين (التوصيف حسب زاوية النظر)، وذلك نظرا إلى حجم (ودقة) المعلومات التي توفرها الهيئات المختلفة المختصّة لصانع القرار، فضلا عن المشاركة الواسعة للخبراء والمختصّين في تحليل هذه المعلومات، والمساعدة من ثم في عملية صنع القرار، إلا أن الواقع يشير إلى خلاف ذلك، خصوصا في المنطقة العربية، حيث اتسمت السياسة الأميركية منذ انخراطها فيها على نطاق واسع بعد الحرب العالمية الثانية بقصر نظرٍ نجم عنه ارتكاب جملة من الأخطاء، أدّت إلى إلحاق ضررٍ بالغ بشعوب المنطقة والمصالح الأميركية فيها. خذ مثلا النظرة الإيجابية التي تبنّتها الولايات المتحدة تجاه المؤسسات العسكرية العربية في سنوات الاستقلال الأولى، وشجّعت عبرها الانقلاب على النخب السياسية التقليدية، لأنها كانت ترى فيها زعاماتٍ هشّة غير قادرة، كونها منتخبة، على تحدّي الرأي العام، واتخاذ قراراتٍ جريئةٍ في اطار عملية تحديثٍ واسعةٍ رأت واشنطن أن المؤسسات العسكرية وحدها قادرةٌ على إدخالها وفرضها على مجتمعات تقليدية. هذا التوجه هو الذي دفع الجيش إلى دخول معترك السياسية في مختلف الدول العربية، وما زال قابعا فيها.
مع انتشار المد القومي العربي في الخمسينات، والذي لعبت القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل والموقف من الاستعمار دورا رئيسا في صعوده، اتّخذت واشنطن موقفا معاديا منه، بدلا من دعمه، خصوصا وأن المؤسسات العسكرية التي رعت واشنطن وصولها إلى السلطة هي من تصدّى لقيادته، وقد أدّى ذلك الى نتيجتين رئيسيتين: اختراق الاتحاد السوفييتي المنطقة من خلال تزويد العرب بالسلاح لمواجهة الخطر الإسرائيلي بعد أن رفضت دول الغرب بيعها لهم. وصعود تيارات الإسلام السياسي الذي دعمته واشنطن باعتباره سبيلها الأمثل لاحتواء الخطر الشيوعي والمدّ القومي العربي. ومع انحسار هذا المدّ نتيجة أولا فشل الوحدة السورية -المصرية، ثم الهزيمة القاسية التي تلقاها العرب أمام إسرائيل عام 1967، ملأت التيارات الإسلامية الفراغ، وصولا إلى نهاية الحرب الباردة، تحوّل بعدها التحالف إلى عداء مرير كبّد المنطقة وما زال ثمنا باهظا.
دفعت هجمات سبتمبر، التي استهدفت رموز القوة الأميركية، واشنطن إلى تدخلاتٍ عسكريةٍ غير محسوبة في العالم الإسلامي، نتجت عنها تداعيات كبرى منها، إحداث دمار هائل في العالم الإسلامي، واستعداء فئاتٍ واسعة فيه، استنزاف أسباب القوة الأميركية (آلاف القتلى وتكلفة مادية قدّرت بثمانية تريليونات دولار في العراق وأفغانستان وغيرها)، وتدمير موازين القوى في غرب آسيا نتيجة غزو العراق وشطبه من المعادلة الإقليمية، وأخيرًا انشغال الولايات المتحدة في حروب العالم الإسلامي عن صعود الصين التي انتقلت خلال عقدين من دولة عالمثالثية لا وزن كبير لها في السياسة الدولية إلى القوة الاقتصادية والعسكرية الثانية في العالم.
تمثّل الخطأ الكبير التالي الذي ارتكبته واشنطن في سياستها المتصلة بالمنطقة العربية في تعاطيها البارد مع ثورات الربيع العربي وطموح الشعوب العربية نحو الديموقراطية، رغم أن واشنطن كانت، قبل سنوات قليلة فقط، تشجّع عليها، وتعتبر أن الاستبداد والفساد، وغياب الحريات، وانسدادا الأفق وامتهان كرامة الإنسان هي المسؤول الأول عن صعود النزعات المتطرّفة، التي ضربت الولايات المتحدة يوم 11 سبتمبر/ أيلول 2001، كما جاء في خطاب القاهرة الشهير الذي ألقته وزيرة الخارجية الأميركية الأسبق، كوندوليزا رايس، في يونيو/ حزيران 2005. ولكن ما أن حزمت الشعوب العربية أمرها وقرّرت المخاطرة طلبا للحرية والكرامة والحكم الرشيد في وجه أسوأ أنظمة الاستبداد المعاصر حتى خذلتها الولايات المتحدة. وقد أسهمت السياسات الأميركية التي فضّلت البحث عن مكاسب آنية قصيرة في تحوّل ثلاثٍ من الثورات العربية إلى حالة اقتتال أهلي (سورية واليمن وليبيا)، فيما عاد نظام أكثر استبدادا إلى الرابعة (مصر) وفي طريقه إلى العودة في الخامسة (تونس).
بإشاحة نظرها عن حلم الديمقراطية العربي، أسهمت واشنطن في تكريس أنظمة الاستبداد التي تمثل اليوم حليفا طبيعيا لخصمها الاستراتيجي الرئيس (الصين)، ألا يعبّر كل هذا عن قلة كياسة وقصر نظر في سياسة واشنطن العربية؟